بقلم: د. حسين عبد البصير
أغاني الحب الفرعونية
تعتبر أغانى الحب الفرعونية من أروع الأعمال الأدبية والشعرية التى جاءت إلينا من مصر القديمة. ومثّل النبات عنصرًا مهمًا للغاية فى مصر القديمة، وكان له العديد من المعانى والاستخدامات والتمثيلات والوظائف فى أغلب مظاهر الحياة والموت. واهتم به المصريون القدماء اهتمامًا كبيرًا، واستخدموه لمنافع عديدة، فعلى سبيل، استخدم فى الطقوس الجنائزية بسبب فوائده الجنائزية والطقسية – فضلاً عن ارتباط بعض أنواعه بآلهة معينة – وأيضًا لأغراض زخرفية بل وأخرى شعرية.
ووُظف النبات بكثافة كعنصر زخرفي دالٍ في أغانى الحب الفرعونية التي ترجع إلى عصر الدولة الحديثة. وأثار هذا الاستخدام الزخرفي عددًا من الأسئلة مثل: لماذا استخدم الفراعنة النبات في هذا السياق الأدبى تحديدًا؟ وهل كان هذا الاستخدام مختلفًا عن الاستخدامات الأخرى للنبات؟ وما المعنى وراء هذا الاستخدام؟ وما وظيفة هذا الاستخدام؟ وهل كانت هناك أهمية لهذا الاستخدام؟ وما كانت رمزيته ودلالته الأدبية والفنية؟
الطبيعة الساحرة كانت وراء إلهام أغاني الحب الفرعونية
شكلت أغاني الحب من عصر الدولة الحديثة نوعًا فريدًا في الأدب المصرى القديم. وجاء أغلبها من قرية دير المدينة بالبر الغربي لمدينة الأقصر الحالية. وكان، أغلب الظن، النشاط الإبداعي المكثف في عصر الرعامسة (عصر الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين حوالي 1295 – 1069 قبل الميلاد)، وتحديدًا عهديّ الملكين سيتي الأول ورمسيس الثالث، الدافع الرئيس وراء ظهور وتطور هذه الأغاني التي ربما ألفتها الصفوة المثقفة في مدينة طيبة القديمة. وأعاد كتابتها فنانو وكتاّب دير المدينة. وتعد أغاني الحب معروفة من مصارد محددة أهمها بردية شستر بيتي الأولى وبردية هاريس 500 بالمتحف البريطاني، وبردية تورين.
وعلى الرغم من أن كاتبي أغانى الحب كانوا من الرجال غالبًا، فقد نجحوا بصورة كبيرة في التعبير عن مشاعر النساء القوية تجاه عشاقهن. وتعنى أغاني الحب في المقام الأول بالإنسان. وتصور الحب كحالة شعرية فريدة. وتمتلىء هذه الأغاني بالإيحاءات الحسية الصريحة. ومثلت تعبيرًا متحررًا عن الحب والجنس في مجتمع المدينة المفتوح على الثقافات الوافدة إلى مصر الفرعونية. وتحمل الأغاني في طياتها رسالة غير مباشرة تعبر عن الحب والرغبة الحميمة بين العاشق والمعشوقة، لكنها تلمح ولا تصرح بأية أنشطة جنسية صريحة. واهتم مؤلفوها بمديح الحب والسعادة والدعوة للاستمتاع بالمتع فوق سطح الأرض.
واستخدمت البيئة النباتية وعناصرها الزخرفية بكثافة في هذه الأغانى، فتعدد ذكر الأحراش، والحقول، والحدائق، والبساتين. وكانت الحقول والحدائق أمكنة محببة للقاء بين العاشقين. وكانت الحدائق بكل نباتاتها وأشجارها، مثل اللوتس والصفصاف، أحد أهم العناصر الرمزية في الأغانى. وكانت الأشجار لاعبًا نشيطًا ومحورًا في أغانى الحب.
وأغاني الحب، ليست دائمًا، في حالات كثيرة قصة حب، وتنتهي عادة نهاية سعيدة. ويشكل المكان والزمان عنصران مهمان من عناصر قصة الحب هذه. وكانت المناسبات الاحتفالية أوقاتًا جيدة لممارسة الحب بين العشاق والعاشقات من الشباب. وربما إبدعت وازدهرت أغاني الحب في العيد الجميل للوادي واحتفال بداية العام. ولكل أغنية زمنها الخاص، وكان بعض لقاءات الحب يحدث بالنهار أو بالليل. غير أن النهار، عندما تشرق الشمس، كان الأنسب للقاءات الحب. وكان مكان الحب، حيث يلتقي العشاق، أهم عناصر أغاني الحب، والذي كان حديقة فى الغالب. ويعد الحب في الحديقة موضوعًا مكررًا في أغانى الحب حيث أظهرت أغانٍ عديدة أن الحب كان عادة يحدث في حديقة. وفي هذا السياق المكاني، تمثل الحديقة مكانًا يأطر سياق الحب يمتاز بالتجدد والخصوصية وجمال وروعة الطبيعة. وقد ترمز الحديقة عمومًا إلى فتاة أو إلى الطبيعة الجنسية الأنثوية على وجه الخصوص، علاوة على كون الحديقة مكانًا رائعًا شديد الخصوصية والحميمية للعاشق أن يلتقي فيه بمعشوقته. ويمكن أن توصف بعض الحدائق بأنها أماكن للمتعة مخصصة للتجدد والانتعاش والترويح عن النفس.
وعلى الرغم من سيادة وسطوة العالم النباتي في أغاني الحب، لم تذكر كل أنواع النباتات في هذه الأغانى العديدة. واستخدمت أجزاء من جسد المحبوبة بشكل رمزي وعميق وموحٍ. وتكونت العناصر الزخرفية، التى لعبت دورًا محورًا في أغانى الحب، من الأشجار والفواكه والخضراوات والأزهار. وكان من بين النباتات المثمرة لذيذة المذاق التين والتفاح والجميز وكانت توحى عادة بفكرة الخصوبة والتواصل والارتواء. واختيرت الأزهار الملونة والعطرية الفواحة.
وتعد لغة النباتات الخاصة بالأشجار والفاكهة فريدة جدًا وتعبر تعبيرًا حيًا وحقيقيًا عن الحب وتؤِّسس لسياقه. وكانت بيئة الحب هذه طبيعية للغاية، مليئة بكل العناصر التي تساعد على تحقيق الحب وازدهاره. وعلى الرغم من أن لغة الأغاني لا تتحدث صراحة عن لقاءات جنسية فعلية، كما سبق القول، فإن ذلك لا يحتاج إلى مجهود كبير لتبين حقيقة ما كان يحدث بين العشاق والعاشقات. وتعتبر البيئة الطبيعية خير مكان لتحقيق ذلك، وإذا لم يمارس فعل الحب فيها، فإنها كانت مقدمة مناسبة لأدائه في مكان آخر. وحملت رائحة الأشجار والفواكه دلالات جنسية قوية وساعدت كثيرًا في خلق بيئة مناسبة لممارسة الحب. وعبرت نصوص مصرية قديمة عديدة عن أهمية تأثير الرائحة على الرجال والنساء على حد سواء في الإعداد للقاء الجنسي. وعكست بشكل ملحوظ موائد النبلاء ومناظر الأعياد وبردية تورين الجنسية، من عصر الدولة الحديثة، (وما ظهر فيها مثل أزهار اللوتس، والأقماع العطرية، إلخ) أهمية العطر ودلالاته الجنسية. وذكرًا مرارًا نبيذ العنب، المستخرج من الكروم والذي يعد واحدًا من أفضل أنواع الخمور، في أغانى الحب. وتظهر إحداها فكرة السكر من الخمر كأحد مظاهر الأعياد والاحتفالات ومدلولاتها الجنسية.
والخلاصة أن أغلب العناصر النباتية المستخدمة في أغانى الحب كانت من الفاكهة والأزهار (مثل اللوتس على سبيل المثال)، ولها أغراض وظيفية ورمزية، علاوة على أغراضها الزخرفية المعروفة. وللنبات هنا دور جديد كعنصر زخرفي ورسول محبب للغرام. وله أيضًا رمزية دلالية واضحة من خلال تمثيله بعض أجزاء من جسد الحبيبة، كما أشير من قبل. وكان أيضًا العنصر الأكثر توافرًا في بيئة العاشق والمعشوقة على السواء. وتعد هذه العناصر النباتية حديثة الظهور في المشهد الأدبي واللغوي المصري القديم. ونجح مؤلفو أغاني الحب في توظيف هذه العناصر أدبيًا على نحو موفق وفريد لا يعكس فقط معناها الديني المعروف. وكان هذا السياق مقصودًا في حد ذاته نظرًا لما يمثله من خلق وإبداع متجدد لصورة رومانسية جميلة للعاشق والمعشوقة على حد سواء، تبث السرور في النفس وتبعث على تهيئة المشهد للحب وإعادة فعل الحب الأول الذي حدث مع بداية الخلق وجلبته الآلهة للأرض، ومنها تعلم البشر فنون الحب من أجل أن يستمر لمواجهة قوى الشر التى تسعى لتدمير أسس الحياة. وعبرت أغانى الحب عن ارتباطها الوثيق بالحياة الأولى ومتعها الحسية على سطح الأرض. ويمثل مشهد الحب فى الحديقة النبات نفسه حين يبدأ صغيرًا وينمو حتى يسيطر على المشهد كله تمامًا مثل الحب الذي يساعد على استمرارية الحياة ممتلئة بالسعادة والمتعة والحب.
مصر القديمة في متحف اللوفر
يعتبر متحف اللوفر واحدًا من أهم وأعرق المتاحف العالمية، وفي البداية شُيد كقلعة تحمى مدينة باريس، وأصبح مقرًا للحكم، ثم متحفًا خالدًا يحفظ للبشرية ذاكرتها عبر الأزمان.
ويعد الجناح المصري في اللوفر من أبرز أجنحته، وبعد التوسعات الأخيرة التي وصفت بـ “الثورة» زاد عدد القطع المعروضة إلى حوالي خمس وخمسين ألف قطعة أثرية، وتضاعفت مساحة العرض فبلغت أكثر من أربعة آلاف وخمسمئة متر، تمتد عبر تسع عشرة صالة في المتحف، ليصبح بذلك أجمل وأغنى المتاحف المصرية في العالم، لدرجة أنه وُصف من قبل المختصين بـ “الجناح الأسطوري».
وتجئ البداية، في الخامس عشر من مايو 1826، عندما أصدر شارل العاشر أمراً ملكياً بإنشاء «الجناح المصري» في اللوفر، وتعيين جان-فرانسوا شامبليون أميناً عاماً له، تقديراً لجهوده الدؤوب ومناداته المستمرة بإنشاء متحف للآثار المصرية.
وكانت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت 1798 – 1801، أولى محطات انتقال الآثار المصرية إلى فرنسا؛ اذ قام أفرادها بجمع ما استطاعوا جمعه من آثار مصر ليحملوها إلى فرنسا. لكن حالفهم سوء الحظ هذه المرة، فسقطت كل هذه الآثار التي جمعوها بما فيها حجر رشيد الشهير، في أيدي أعدائهم الإنجليز بعد هزيمة عسكرية مريرة. وانتقلت تلك الآثار إلى إنجلترا، التي أسست بها واحداً من أروع أجنحة المتحف البريطاني في لندن، وأعنى «الجناح المصري».
وجاءت أولى مجموعات الآثار المصرية إلى اللوفر من صديق نابليون الشخصي وآخر مدير للمتحف الإمبراطوري الرسام الفرنسي المعروف فيفان دنيون، واشتملت على تماثيل ملكية عدة، ودخلت المتحف في عام 1793. وتبعتها 16 قطعة أخرى في عهد لويس السابع عشر.
وعندما اعتلى شارل العاشر العرش، عُرضت مجموعة ضخمة من التماثيل المصرية القديمة احتفاء بهذه المناسبة، واشتملت على تمثال المعبودة إيزيس الضخم من فيلا الإمبراطور الروماني هادريان، وثلاثة من تماثيل الكتلة للنبلاء «آخ – آمون – رع» و»بادي – آمون – أوبت»، و»واح – إيب- رع»، والتمثال الجاثي للمدعو «ناخت – حور – حب» وتمثالين للملكين «نفرتيس الأول» و»أكوريس» من الأسرة 29. وأحضر الكونت دي فوربى التماثيل الجميلة للربة «سخمت» الممثلة فى هيئة أنثى لها رأس لبؤة. وأهدى ابن تاجر الآثار بيير بول تدنا – دوفن التابوت الحجري الأول لـ «أيونا» إلى لويس الثامن عشر.
وحتى قبل انشاء الجناح المصري في اللوفر، كان شامبليون يحاول كسب الرأي العام لصالحه من أجل الاعتراف الكامل بالفن المصري القديم. فحاول قدر استطاعته أن يحضر روائع هذا الفن إلى باريس كي يقنع المسؤولين الفرنسيين بجمال وعظمة الحضارة المصرية القديمة، التي هي – في رأيه – أعظم حضارات الدنيا قاطبة. وفى العام 1824، فوض المتحف شامبليون شراء مجموعة «دوران» التي بلغ عددها حوالي 2149 قطعة أثرية، لتصبح بحق أولى مجموعات الآثار المصرية الضخمة التي تدخل اللوفر، ووصفها أمين الآثار المسؤول عن تقييمها الكونت كلار قائلاً: «يجعل تنوع وروعة هذه الآثار – والتي تشكل بمفردها معرضاً جميلاً، يظهر كل شيء يتعلق بمصر – منها مجموعة صالحة للفن والتعلم، وليست أقل أهمية من تلك التماثيل الضخمة التي تملأ اللوفر، فهي عن ذلك البلد المدهش المتفرد مصر». فعلاوة على حوالي 1225 قطعة من التمائم والفنون الصغرى والمومياوات والأواني والحلى، اشتملت المجموعة على العديد من التوابيت المتميزة والمعروفة بـ «توابيت دوران» ولوحات «سنوسرت» و»أوزير – رع» والتمثال النادر لـ «مري آمون» والتماثيل الصغيرة لـ «آمون – إم – أوبت» و»تامروت».
وصدّق شارل العاشر على أمر شراء هذه المجموعة في الرابع عشر من ديسمبر 1824، وكانت لحظة فارقة في تاريخ الجناح المصري في اللوفر. ونظراً لضخامة المجموعة وتميزها، اقترح التقرير الأولى المرفوع إلى السلطات الفرنسية إنشاء جناح خاص للآثار المصرية في اللوفر، على أن يُطلق عليه اسم «متحف شارل العاشر».
وعندما أقدم القنصل الفرنسي العام في مصر وجامح الآثار الشره، براناردين دروفتى على بيع مجموعته الخاصة الهائلة، والتي جمعها عبر سنوات عمله الطويلة في مصر، رفضت فرنسا شراءها؛ نظراً لمغالاته في ثمنها. وعلى الفور، اشتراها ملك سردينيا شارلس فليكس وعرضها في متحف «كورين» في إيطاليا.
وندم شامبليون أشد الندم على ضياع هذه المجموعة من أيدي اللوفر.
وعبر بحثه الدؤوب عن مجموعات أخرى، اكتشف شامبليون وجود مجموعة ضخمة في ليفورنو في إيطاليا، كوّنها أكبر لصوص الآثار المصرية في العصر الحديث، قنصل بريطانيا العام في مصر هنري سالت في الفترة من 1819 – 1824. وكان سالت أعظم ناهبي الآثار المصرية، فنهب معظم جبانات الأقصر ومعابد الدلتا، فطلبها المتحف البريطاني لما بها من مجموعة من التماثيل الضخمة والنقوش الجميلة في العام 1818. فشحذ شامبليون فصاحته واستخدم ملكاته الخاصة للتأثير على شارل العاشر وحثه على شرائها، حتى يفوت فرصة الانتفاع بها على المتحف البريطاني. فكتب إلى الدوق دي بلاكا الذي دافع بدوره عن شامبليون وقضيته العادلة، مستغلاً صداقته للملك ومطالباً إياه بالآتي: «يجب علينا أن نحصل على معظم المجموعات الكاملة والآثار الكبيرة؛ اذ تستدعى متطلبات دولتنا دولة العلم أن ننشئ متحفاً حقيقياً للآثار المصرية شاملاً كل المدارس والأساليب والأحجام، وعلى فهذا، فإن مجموعة ليفورنو كاملة، وعما أعرفه عنها، أنها فرصة حقيقية لن تُعوض كي تكوّن فرنسا متحفاً مصرياً في اللوفر».
ولفت الأمر الانتباه، وأثار اهتمام الجميع، بمن فيهم شارل العاشر نفسه الذي أصدر مرسوماً ملكياً بالشراء على الفور في 23 فبراير 1826، وكوفئ شامبليون على جهوده بتعيينه أميناً عاماً للجناح المصري الجديد في اللوفر في الخامس عشر من شهر مايو من العام نفسه.