بقلم: د. حسين عبد البصير
القانون في مصر القديمة
كان المصريون القدماء من أوائل الشعوب التى قدست الحق والحقيقة، وأعلت من شأن العدالة، واحترمت الصدق والقانون، وبنت حضارتها على النظام الكوني المستقر. ومنذ تاريخها المبكر، اهتدت مصر القديمة إلى معرفة وممارسة الحقيقة والعدالة والحق والقانون والنظام بمعناه العام، وأيضًا النظام الكوني المتوازن، والقيم المعنوية والمادية المبنية والمستمدة من هذه المفاهيم المطلقة ومقوماتها الإيجابية.
ورمز المصريون القدماء إلى هذا كله بإلهة ذات طبيعة حساسة وصفات عظمى. وكان من صدق حسهم وحدسهم بها وتعظيمهم لشأنها أن أطلقوا عليها اسم «ماعت». ويعنى هذا الاسم حرفيًا «الصدق» أو «العادلة». واعتبروا هذه الربة المميزة ابنة لرب الأرباب، المعبود الكوني رب الشمس «رع». وصور المصريون القدماء عادة تلك الربة المهمة على هيئة سيدة تشير إلى العدالة في مفهومها العام، إما واقفة أو جالسة، تعلو رأسها ريشة ترمز إلى نزاهة الحكم والعدالة المطلقة وتمسك بيدها اليمنى علامة «عنخ» (وتعني «الحياة») التي كانت ترمز إلى الحياة في كل مناحيها وسياقها العام والخاص مما يعني أن الحياة لا تستقيم دون عدالة، وحملت في يسراها صولجانًا يرمز إلى الحكم الرشيد المستند إلى الحق والشرعية وتطبيق العدالة وسيادة القانون وتفعيل وإرساء الحق وتقديس الصدق .
ونظرًا لما جسدته تلك الربة «ماعت» من قيم نظامية وأخلاقية عدة، فقد جسدت المفهوم الذي دعت إليها آلهة مصر الكبرى المؤسسة والحامية للدولة المصرية من خلال تكليف الملك المصري الحاكم والذي كان ممثلاً لهم على الأرض بصفته ابن الآلهة وممثل الأرباب إلى تطبيق «الماعت» كنظام كوني شامل يدور النظام السياسي والإداري، وغيره من النظم، في فلكه الرصين الذي لا يصيبه الخلل أبدًا. وأقام الملوك الفراعنة دولتهم العريقة والمستقرة على أساس متين من «الماعت» وبوحي وهدى منها وتحت إرشادها القويم. وكان هذا أحد أهم أسباب نجاح وتميز وازدهار الدولة المصرية القديمة ورأس النظام الحاكم المتمثل في شخص الملك الذي كان يتولى الحكم نيابة عن الآلهة باسم «الماعت»، وكذلك ممثلوه من كل رجال الحكم مثل الوزير والكهنة وكبار رجال الدين وقادة الجيش وحكام الأقاليم والقضاة وكل الموظفين العسكريين والمدنيين إلى أصغر موظفي الدولة المصرية العريقة في فنون الإدارة والتدوين والتراتب الوظيفي.
لقد كانت العدالةذات مفهوم مهم للغاية في مصر القديمة؛ إذ كانت جزءًا لا يتجزأ من جميع جوانب المجتمع وثقافته. وكان القانون أساسًا في حياة المصري القديم فقد كانت مصر معروفة بمشروعيتها القانونية. واعتبر المصري القديم أن قرارات المحكمة لها أكبر تأثير على حياة المجتمع، وكان يجب معاقبة الخارجين على القانون بل وتقديم المساعدات للأطراف المتضررة، وعلى الرغم من تعيين أفضل الرجال من مختلف أنحاء مصر كقضاة فإنهم لم يصلوا إلى النهاية التي كانت في ذهنهم.
وكان الملوك الفراعنة مسؤولين في نهاية المطاف عن جميع الأمور القانونية في مصر. وكانوا في كثير من الأحيان يصدرون المراسيم ذات الطابع القضائي. وكان الوزير تحت الفرعون مباشرة، يعمل كيده اليمنى. ووضع الفرعون الوزير على رأس الإدارة البيروقراطية القوية في مصر. وكان مسؤولاً عن النظام القضائي للدولة، وفوّض الفرعون والوزير مسؤولياتهما القضائية والإدارية إلى المسؤولين المحليين.
ومنذ عهد الدولة القديمة (2686 – حوالي 2181 ق.م) كانت مصر تُدار من قبل مجموعة من الموظفين المتعلمين، وهم الكتاّب الذين اجتازوا المهمة الشاقة المتمثلة في تعلم القراءة والكتابة. وكان لطبقة الكتاّب دور أساسي في ازدهار مصر. كما تطور القانون المصري ببطء شديد، وكانت القوانين يمكن أن تظل سارية المفعول لفترات طويلة للغاية.
ومن هذا الوصف الواسع للهيكل الإداري لمصر، لا يمكننا استنتاج الطريقة التي كان يُمارس بها القانون في الواقع. وعلى الرغم من أن الحجم الهائل للمصادر المتاحة لنا، فإنه لم يتم بعد العثور على أي مثال للقانون المصري المقنن قبل عام 700 قبل الميلاد.
وفي غياب قانون مقننموجود، يجب أن تستند معرفتنا بالقانون المصري في الواقع إلى وثائق أخرى متاحة، مثل العقود والوصايا وسجلات المحاكمة والمراسيم الملكية. وهذه للأسف، لم تنجُ بأعداد كبيرة. ولحسن الحظ، هناك استثناء واحد لهذه المسألة جاء إلينا من مجتمع العمال في الدولة الحديثة في دير المدينة. وعلى مدار ما يقرب من 400 عام، أنتج سكان هذا المجتمع عشرات الوثائق التي تم أرشفتها. وتمتد السجلات التي خلّفها أولئك العمال على مدار عصر الدولة الحديثة. وتقدم النصوص معلومات عن الحياة اليومية والتي ساهمت بشكل كبير في معرفتنا بالنظام القضائي المصري القديم.
ومن الصعب -استنادًا إلى نصوص مثل سجلات المحاكمة- أن نميز القانون الجنائي عن فروع القانون الأخرى. ولم يكن القانون الجنائي، معرَّفًا بوضوح داخل النظام القضائي المصري. لكن هناك طريقة أخرى لتحديد القضايا الجنائية بوضوح في النصوص القانونية من دير المدينة من خلال تقييم العقوبات التي تم تنفيذها في الحالات المختلفة؛ إذ لم يكن من الواضح أن كل التجاوزات كانت متساوية في العقوبة.
ويبدو أن السرقة كانت موجودة إلى حد ما في دير المدينة؛ فلدينا في السجلات الاتهامات والتحقيقات والعقوبات المفروضة. ومع ذلك فإن العقوبات لم تتجاوز العقوبات الاقتصادية حيث كان يضطر اللص إلى إعادة البضائع المسروقة. وكان يتعين عليه دفع تعويض يمكن أن يصل إلى أربعة أضعاف القيمة الأصلية للبضائع المسروقة. إما إذا كانت البضاعة المسروقة ملكًا للدولة فتكون العقوبة أثقل بكثير. وأما إذا كان المسروق ملكًا للفرعون، فكان اللص مُطالبًا بدفع ثمانين إلى مائة ضعف للأشياء المسروقة بالإضافة إلى العقاب الجسدي مثل الضرب أو في حالات نادرة تصل العقوبة إلى الإعدام.
ولم تكن النصوص القضائية الصادرة من دير المدينة غير محسومة فيما يتعلق بالموقف القانون المصري من الزنا والاغتصاب، لكن بالتأكيد، كان المصريون ينظرون إلى كل من الاغتصاب والزنا كسلوك غير مشروع، وكان يتم التعامل معه في كثير من الأحيان من قبل المحاكم. أما فيما يتعلق بالأفعال الأخرى التي يمكن أن نطلق عليها سوء سلوك جنسي مثل المثلية والبغاء، فلا يبدو أن هذه كانت جرائم جنائية. وكان الاعتداء الجسدي بالتأكيد جريمة يُعاقب عليها القانون في المجتمع المصري القديم، وهناك بعض الحالات التي تم فيها إدانة شخص ما حيث تلقى الجاني عقوبة جسدية من نوع ما.
وكانت ماعت إلهة العدالة مبدأً إرشاديًا داخل المجتمع المصري القديم. وكانت العدالة تتم وفقًا لمبادئ «ماعت». وكانت مسؤولية جماعية. ومن ثم ليس من المستغرب أن نزاهة القضاة تعتبر ذات أهمية استثنائية. حيث كان القضاة مسؤولين حكوميين، يمثلون الفرعون في المسائل القانونية والإدارية؛ لذا فإن أي سوء تصرف قضائي ينعكس بشكل مباشر على الفرعون؛ لذا تم اتخاذ جميع الاحتياطات لضمان نزاهة المحكمة. كما هو موضح في نصوص دير المدينة.
وقرب نهاية عهد رمسيس الثالث، تشكلت مؤامرة لاغتيال الملك بين واحدة من الملكات والخدم الملكي. وكان في المؤامرة العديد من الحريم الملكي، فضلاً عن عشرة من مسؤولي الحريم وزوجاتهم. وقبل تنفيذ الخطة، تم كشف الخيانة والقبض على جميع المعنيين وأمرّ الفرعون بملاحقتهم. وبما أنه لا يمكن معالجة قضية بهذا الحجم من قبل محكمة قانونية عادية، فقد تم تعيين لجنة خاصة تتألف من أربعة عشر من كبار المسؤولين للتحقيق في الجرائم ومعاقبة المذنبين. وكانت المقابر –خاصة التابعة للطبقة العليا– هدفًا للسرقة، وكان ذلك جريمة يعاقب عليها القانون، حيث وصلت عقوبة السطو على المقابر الملكية إلى الإعدام. وكانت المحكمة الكبرى التي يرأسها الوزير هي التي تحكم بنفسها في حوادث السطو على المقابر الملكية.
وفي أعقاب غزو الإسكندر الأكبر السلمي إلى حد ما لمصر في عام 332 قبل الميلاد، حدث تغيير في القيادة داخل المجتمع والإدارة في مصر، وعلى وجه الخصوص على نظامها القانوني، حيث أصبح تطبيق القانون والولاية القضائية المصرية أكثر تعقيدًا بكثير في ظل البطالمة. ومن الواضح أن النظام القانوني في مصر قد تطور ليصبح أكثر تعقيدًا في الفترة البطلمية المبكرة، فقد أنشأ البطالمة نظامًا بيروقراطيًا من أجل فرض السيطرة الكاملة على البلاد وإنتاجها الزراعي، كما سعى البطالمة للسيطرة على السلطة القضائية المصرية من أجل تعزيز قوتهم. وأدمج النظام البطلمي القانونين اليوناني والمصري معًا. وكان المصريون ملزمين بالقانون المصري واليوناني بموجب القانون اليوناني. ومع ذلك، وفي حالات الجرائم الجنائية، لم يكن الأمر كذلك، إذ كان يتم الحكم بالقانون اليوناني حتى عندما كان المصريون الأصليون متورطين. وتقدم القانون الجنائي البطلمي بشكل كبير على القانون المصري؛ حيث ميّز وبوضوح بين أنواع الجرائم، مثل الجرائم ضد الأفراد، والجرائم المالية، والخيانة العظمى، والجرائم الدينية.
وكانت أخطر جريمة يمكن ارتكابها ضد فرد هي القتل. ومن الواضح أنه تم التمييز بين القتل المتعمد وغير المتعمد. وعلى الرغم أننا لا نعرف الكثير عن العقوبة على القتل في مصر البطلمية، فمن المرجح أن العقوبة كانت تنطوي على مصادرة الممتلكات. وكانت الجرائم ضد الأفراد تشمل أيضًا التهديد بقطعة من المعدن، والاعتداء العنيف، والافتراء كان يُنظر إليه على أنه جريمة عظيمة. وأيضا كل من يرتكب ضررًا لشخص في حالة سكر أو ليلاً أو في معبد أو في مكان السوق سيخسر ضعف مقدار العقوبة المقررة. وكما يبدو أنه لم يكن هناك مصطلح قانوني للسرقة في العصر البطلمي، حيث كان يشار إليها دائمًا بـ»الهجوم بطريقة متعبة»، مثل ارتكاب الجريمة في الليل، أو بحمل سلاح، أو السرقة من المعبد. وكان على المدانين بالسرقة أن يدفعوا غرامة في بعض الأحيان، بالإضافة إلى عودة السلع المسروقة وبصرف النظر عن سرقة المتعلقات المادية، فإن الأضرار التي كانت تلحق بمكان الإقامة كان يمكن أن تتم مقاضاتها جنائيًا أيضًا، مثل الأضرار التي قد تلحق بالماشية أو المحاصيل، سواء عن قصد أو لا. وهناك أيضا جرائم أكثر خطورة مثل الحرق، وتدنيس المقابر، وفي حالة حدوث الضرر دون قصد يمكن تسوية الأمور دون فرض عقوبة. وهذا كله بالإضافة إلى جرائم الاحتيال مثل تزوير الوثائق، والاحتيال في المعاملات التجارية.
واعتبرت التجاوزات المالية جريمة وذلك للإضرار بإيرادات الدولة، سواء عن طريق الإهمال أو التَعَمُد. وكانت العقوبات فيها تكون شديدة. وهو أمر ليس بغريب حيث كان الهدف الأساسي والرئيسي من الحكم البطلمي على مصر هو استغلال خيراتها. وبما أن الملك كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالإله، لذا فأي جريمة كانت تُرتكب ضد الدولة تحمل في كثير من الأحيان دلالة دينية، هذا بالإضافة إلى الجرائم الدينية الواضحة مثل تدنيس المقدسات والسطو على المعابد. وعلى الرغم من ندرة الأدلة على هذا النوع من الجرائم، فإنه من الواضح أنها كانت تعتبر واحدة من أخطر الجرائم. ويؤكد ذلك المرسوم الخاص بالملك يوريجيتيس الثاني وزوجته كليوباترا اللذان أعلنا فيه العفو عن جميع رعاياهما في الاتهامات والإدانات المختلفة ما عدا التدنيس للمقدسات والقتل العمد، حيث نجد كان تدنيس المقدسات مساويًا للقتل العمد.
وطورت مصر البطلمية نظامًا متطورًا لتطبيق القانون، حيث كان الموضوع في أيدي مسؤولي الشرطة إذ كان يقومون بإلقاء القبض على المجرمين المشتبه بهم واعتقالهم، كما كانوا يقومون بإجراء التحقيقات. وقد تمتع هؤلاء الضباط بقسط كبير من الحرية والاستقلالية.
وكانت العقوبات في أغلب الأحيان عبارة عن عقوبات مالية، إما في شكل غرامة، أو مصادرة ممتلكات. وكانت الغرامات تُدفع للدولة. وفي هذه الحالة كانت ثابتة بموجب القانون، أو يتم دفع الغرامات للفرد كتعويض مالي عن الجريمة التي اُرتكبت في حقه، ويتم تحديد الغرامات المدفوعة للأفراد بموجب القانون. وتعد المصادر المتعلقة بالعقاب البدني أو حكم الإعدام في مصر البطلمية نادرة جدًا. وتستند أية استنتاجات تتعلق بهذا الموضوع إلى أدلة مجزأة، ومع ذلك فإننا نستطيع القول إنه كانت هناك عقوبة الجلد وعقوبة الضرب بالعصا بالإضافة إلى عقوبة الإعدام.
وقام الرومان بعمل تغييرات جوهرية في الأنظمة الإدارية والقانونية في مصر. وعُبِد اُغسطس في البداية كفرعون ولم يعد يحكم مصر كمملكة، وأصبحت مصر مقاطعة رومانية، واستُبدلت المحكمة البطلمية بمسؤولين رومان. وبعد ذلك بوقت قصير تم تمرير قانون جعل مصر واحدة من مقاطعات الإمبراطورية الرومانية. ويعني هذا أن مصر أصبحت تابعة للإمبراطور الذي يقوم بدوره بتعيين حاكمها بنفسه. وظلت غالبية الأراضي في مصر مملوكة للدولة. وتم تأجيرها وفرض ضرائب باهظة. وظلت عناصر من الإدارة البطلمية موجودة، ولكن أجرى الرومان تغييرات جذرية وجوهرية في النظم القانونية في مصر، وكذلك في إطار نظامها الاجتماعي. واختفت معظم مراكز البلاط البطلمي القديمة وألقابها. وتم إضافة بعض الوظائف الجديدة مثل مسؤول قضائي رفيع المستوى الذي كان يساعد المحافظ أو الحاكم على الولاية في مسائل القانون المدني. وكان الهدف الأساسي للإدارة الرومانية هو زيادة الإيرادات من خلال الضرائب من خلال فرض الضرائب الجمركية على الإنتاج الزراعي. وكان من ضمن التغيرات الإدارية التي أثرت على المجتمع المصري بعد الفتح الروماني هو الوجود العسكري؛ فقد ساعد الجنود في مختلف الشؤون الحكومية، مثل نقل الحبوب. وقام الضباط ببعض الواجبات الإدارية والقضائية. ووضع الإمبراطور أغسطس أسس النظامين الإداري والقانوني الروماني في مصر بعد فترة وجيزة من حكمه. وبقت هذه الأسس إلى حد كبير في مكانها حتى إصلاحات دقلديانوس في أواخر القرن الثالث.