بقلم: تيماء الجيوش
في يوم السبت الماضي قدم جورج كلوني على مسرح برودواي في مدينة نيويورك عرضه عن ادوارد مورو متناولاً فيها مسالة الحقيقة و السلطة.
و كان الحدث استثنائياً حيث قامت CNN ببثه ولأول مرة في عهدها من برودواي بشكلٍ مباشر ، ما أتاح الفرصة للملايين من مشاهدته على شاشة التلفاز ، و لم يبقى مقتصراً على ١٦٠٠ ممن حضر إلى المسرح. ثلاثة ساعاتٍ لم اشعر بمرورها و ربما كان هذا حال الكثيرين مثلي، بل كانت بحق استثنائية تحمل غنىً فكرياً من خلال العرض و ما تبعه من نقاشٍ تبادل فيه إعلاميين و صحافيين آرائهم حول مكارثي و دوره التشريعي ،و دور ادوارد مورو كصحافي يدافع عن الحريات و الديمقراطية و استقلال الإعلام كسلطة رابعة في خمسينات القرن العشرين تحديداً في العام ١٩٥٤ .
عرض برودواي كان تحت عنوان Good night and good luck, Truth and Power. هو عن فترة زمنية محددة ألا وهي السنوات الأولى للحرب الباردة ، حيث سيطر فيها الاتحاد السوفييتي سابقاً على أراضٍ واسعة في شرق ووسط القارة الأوروبية. الصين آنذاك كانت ايضاً دولة لا تختلف ايديولوجياً عنه ، وكان من تداعياتها آنذاك أن ثارت مسألة وجود عملاء للسوفييت يعملون في حكومة الولايات المتحدة.
كان السيناتور مكارثي قد وجد في هذا ضالةً سياسية له بان يقود حملة ضخمة وإلقاء تهم جزافاً يؤكد فيها ان النخبة في بلاده تخون الشعب الأمريكي خلف الأبواب المغلقة ، و انه كمشّرع و عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي قد حمل عبء الإبلاغ عن ذلك. من ضمن ما قاله مكارثي انذاك انه عثر على ٢٠٥ من الشيوعيين في وزارة الخارجية، و أداته التي اعتمدها في نشر ما لديه هي جهاز التلفاز الذي كان يتسّمر حوله وقتها الأفراد والأسر ، وهم بالتالي سيرونه في كل مرة كان يُلقي خطاباته ، مُطلقاً الاتهامات الكاذبة ، و هو غير آبهٍ إلى أن هناك من سيقوم بالتحقق من هذه الاتهامات والأقوال.بالنتيجة انتشر الخوف حيث لم تكن هذه التهم لتُلقى هكذا و تمضي ، بل كان هناك لها تبعات كثيرة ، خسر وظائفهم من جرائها الكثير من كتاب السيناريو، الممثلين، المخرجين في هوليوود ، فقط لأنهم قاموا بمحاولة تجسيد أفكار تُعتبر ضارة بالولايات المتحدة و اعتُبرت آرائهم تنحى يساراً في منهاجها العام. نجح مكارثي بالترويج لوجهة نظره أيما نجاح ، جعل المجتمع هناك يعيش حالة من الحرب الملموسة والعميقة. وبين هذا وذاك تجاوز مكارثي في مآربه السياسية الحد الدقيق الذي يفصل بين التحقيق والاضطهاد وقام بالخلط بين التهديد الداخلي و الخارجي للسوفييت ، و ما غفل عنه مكارثي و بجهلٍ مطلق حقيقة انه أثار القلق لدى حلفاء الولايات المتحدة و قدم خدمة لأعدائها. في ظل هذا كله لم يتجرأ أياً كان على الوقوف في وجهه سوى صحفي أمريكي مخضرم هو ادوارد مورو و يعمل في Edward R. Murrow from CBS. حيث بدأ ادوارد مورو ببناء رأي عام لوصف مكارثي و عمله بأنه لا أخلاقي ، و ما ساعده انذاك ايضاً من الوسائل هو ان التلفاز بات يُشّكل قوةً إعلامية هائلة ،ربما تشابه قوة التطور التكنولوجي ووسائل الاتصال الاجتماعي في أيامنا هذه. زد على ذلك أن الرئيس الأمريكي أيزنهاور كان مسانداً و يدعمه في نقده البنيوي لمكارثي و عمله. الأهم أن الرأي العام كان يثق بإدوارد مورو الذي واكبهم في أحلك ساعات وأيام الحرب العالمية الثانية من خلال عمله كصحفي.
قام مورو بالتحقيق في كل ما قاله جو مكارثي و ما ألقاه من اتهامات جزافاً و خلق حالة الهلع العام من خلال حملته لفضح مناصري السوفييت، و التي كانت بمعظمها مجرد شائعات لا أساس لها من الصحة او مجرد تلميح ، ما أدى إلى تدمير الحياة المهنية و الشخصية للعديد من الناس في العام ١٩٥٤.
قام مورو من خلال برنامجه التلفزيوني باستهداف مكارثي و تثمين الأدلة و البراهين ودور القانون ، رد مكارثي على مورو باتهامه انه موالٍ للسوفييت . انتهت القضية بانتقادٍ حاد لمكارثي من قبل مجلس الشيوخ الأمريكي .
تأتي أهمية ادوارد مورو من انه تقدم بالتحليل والنقد لكل ما تناوله مكارثي فهو أثار السؤال ، قام بالتحليل و انتقد و بعمق كل ما أورده مكارثي كاشفاً أكاذيبه. أثبت و بشكلٍ قاطع أن الفارق كبير جداً بين المعارضة السياسية و الخيانة للوطن وان الاتهام ليس دليلاً ، وان الإدانة تقتضي توفر الأدلة وفقاً لما أقره القانون و إجراءاته ، وأنه لا يمكن ان يدفع الخوف إلى انعدام العقلانية .
والاهم من هذا وذاك استطاع أن يتطرق إلى نقطة جوهرية حين قال «أننا لا يمكن أن نعلن عن أنفسنا كما نحن فعلاً مدافعين عن الحرية أينما وُجِدت في العالم ، لكن لا يمكننا الدفاع عن الحرية في الخارج بالتخلي عنها في الداخل».
كان ادوارد مورو يؤمن يقيناً أن الديمقراطية تقوم على دعامتين أساسيتين هما دور القانون و استقلال الإعلام .
على قناة CNNالعرض دام ساعة ونصف باداءٍ جيد و إخراج ذكي مزج بين الأداء و مقتطفات من برنامج ادوارد مورو و تسجيلاتٍ لمكارثي ثم تلاه نقاش ثمين عن السلطة و الحقيقة، عن استقلال الصحافة و دورها كسلطة رابعة، عن إساءة استخدام السلطة، والبعد الفلسفي للوقائع و الحقيقة اختلافهما و تعريفهما. لكن بحق ماذا يعنيه هذا العرض لكم، لي، لأي منا؟ قد تكون الإجابة تحتاج إلى مساحة أوسع لكن و بالمبتدأ تأتي أهميته من نقاشه لمسألة بالغة الدقة إلا وهي مسألة الحقيقة والسلطة
Truth and Power.
و لهذا صلة و إسقاط مباشر من خلال اقتباسات مورو على ما يحدث حالياً في زمننا المعاصر، و ما نشهده من نبذ وسائل الإعلام و عدم الثقة بها، عدم الثقة بالنخبة السياسية و صانعي القرار، و الصراع الأزلي في قول الحقيقة للسلطة والذي يُعّدُ و بحق وسيلة غير عنفية و تكتيك يُعتمد في مواجهة الممارسات السلطوية و الغير ديمقراطية. و كما هو الحال في المسائل السياسية ، فللأفراد في ظل هذه الممارسات الخيار في التعبير عن رأيهم بجرأة، او تقديم الولاء للسلطة، او الخروج و الصمت. من يأخذ بالخيار الأول هو من تميز بالشجاعة في اختيار مسار قول الحقيقة و مواجهة السلطة . و هذا لا يمضي هكذا دون حساب ، بل له ثمن باهظ من فقدان الحياة الاجتماعية و العزل و الإقصاء المتعمد لهم، إلى فقدان حرياتهم ، فقدان وظائفهم، و ربما حياتهم و هذا حدث ولا يزال يحدث. يعلم العديد علم اليقين ان مفهوم قول الحقيقة في مواجهة السلطة ترافقه مخاطر شخصية و اجتماعية ، مفهوم بطبيعته يقتضي جرأة أمام السلطة السياسية المهيمنة .
سلاماً للقلوب الجسورة الشجاعة التي دافعت عن الحقيقة وارتقت بها ، لم تتوانى عن ان تؤكد ان الحريات و الحقوق لا تنازل ولا مقايضة بها او عليها بالغاً ما بلغت شراسة السلطة و شهوة النفوذ و القوة. و هذا جزء من إرث إداورد مورو ، جزء من ارث إنسانيتنا جميعاً. أسبوع سعيد لكم جميعاً.
“We must remember always that accusation is not proof and that conviction depends upon evidence and due process of law. We will not walk in fear, one of another. We will not be driven by fear into an age of unreason. Edward R. Murrow .