بقلم: د. خالد التوزاني
يحتفل المغرب كل عام بذكرى 11 يناير 1944، وتمثل ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، فما الداعي لإحياء ذكرى تقديم وثيقة معينة مثل وثيقة المطالبة بالاستقلال؟
إن الاحتفاء بالأحداث الوطنية، عموماً، ليس مقصوداً لذاته، وإنما المراد منه هو إحياء القيم السامية التي صنعت البطولات وكانت وراء النجاحات، بإمكانات بسيطة وبأعداد قليلة يحقق البعض نتائج كبيرة ويصنع المعجزات، وكم رأينا في سير أبطال المقاومة المغربية رجالاً لا يملكون إلا روحاً عالية من الأمل ومن الصمود والصبر والكفاح دون أيّ خوف من الموت أو السجن، وقد كانت كلماتهم مؤثرة في الناس تقذف الرعب في قلوب أعداء المغرب من المستعمرين والمتربصين بالمغرب الدوائر في الداخل والخارج، هؤلاء الرجال هم الذين كتب التاريخ اسمهم بمداد من الفخر والاعتزاز ، فقد كانوا وراء أحداث وطنية غيّرت مجرى التاريخ، ولذلك اليوم ونحن نستعيدهذه الملاحم الوطنية وأقطابها الخالدين وأمجاد الأمة المغربية وبتاريخها النضالي المجيد فإننا ننقل قيم الوطنية والكفاح من أجل الوطن، ننقل ذلك إلى الناشئة والشباب والأجيال الجديدة الصاعدة،لترسيخ الانتماء للوطن، وحفاظا على الذاكرة التاريخية، وذلك انسجاماً مع التوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، الذي أكد في أكثر من مناسبة على ضرورة إيلاء المزيد من العناية بالتاريخ الوطني والرصيد التراثي المغربي والتعريف برموزه والإشادة بأبطاله والتشبع بقيمه والتزود بمعانيه في مسيرات الحاضر والمستقبل.. ويتعلق الأمر أيضاً ببناء نموذج تنموي يستلهم هذه القيم الوطنية من أجل مغرب الغد، ومن ذلك ما فتحه المغرب في فترة جائحة كورونا، مثل مشروع “صُنِع في المغرب” وأيضاً نستحضر تللك الاختراعات الطبية والصحية التي أنتجها المغاربة في هذه الفترة، واحتضان المغرب للأبحاث الدولية الخاصة بلقاء كورونا، ثم تصنيع اللقاح، وما يرتبط به من الصناعات الطبية، خاصة مع الجهوية الموسعة التي منحت لكل جهة كلية في الطب ومراكز بحث جهوية، أعادت الاعتبار للكفاءات الوطنية، دون إغفال دور مغاربة الخارج، الذين يمثلون خيرة أبناء الوطن، من كفاءات وأطر لها مكانة رفيعة في المجتمعات الغربية، تلك الكفاءات التي أثبتت وطنيتها وإخلاصها للمغرب عبر التعبير عن افتخارها بالانتماء، ودعمها لكل المبادرات المغربية، وخاصة صندوق وباء كورونا الذي أطلقه جلالة الملك محمد السادس في بداية انتشار الجائحة، وكانت لمغاربة العالم إسهامات كبيرة فيه.
بالعودة إلى القيم السامية التي تقف وراء حدث الحادي عشر من يناير، يأتي احتفاء المغاربة بهذا الحدث التاريخي البارز وفاء برجالات الوطنية والشهامة، وتمجيدا للبطولات العظيمة التي صنعها أبناء هذا الوطن بروح وطنية عالية وإيمان صادق وواثق بعدالة قضيتهم في تحرير الوطن، مضحين بالغالي والنفيس في سبيل الانعتاق من الاستعمار وصون العزة والكرامة. هذه الحمولات الوطنية والرمزية، وقيم الصمود والتضحية والتعبئة الشاملة والوحدة من أجل وحدة الوطن، وتماسك المجتمع المغربي ملكاً وشعباً، دفاعاً عن الثوابت الوطنية والمقدسات الدينية وعلى رأسها مؤسسة إمارة المؤمنين والمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والسلوك الجنيد.
لقد وقف المغرب، منذ أقدم العصور، بعزم وثبات وإباء، في مواجهة أطماع الدول والإمبراطوريات التي أرادت التوسع في المغرب، منذ الرومان و الفينيقيين والقرطاجيين، ومقاومة العثمانيين ورد الهجمات الصليبية ودفع الأوروبيين الذين حاولوا احتلال الشواطئ المغربية والمدن الساحلية، حيث لم يدخر المغاربة أي جهد في الدفاع عن وحدته واستقلاله،وخاصة في مواجهة الاستعمار الفرنسي والاسباني الذي احتل بعض أجزاء من التراب الوطني منذ بدايات القرن الماضي فقسم البلاد إلى مناطق نفوذ، وإلى اليوم هناك إلحاح من المغرب لتعزيز سيادته على جميع أراضيه وخاصة الصحراء المغربية التي تعتبر غصة في حلق أعداء المغرب.
وهكذا فإن وثيقة المطالبة بالاستقلال، ليست مجرد وثيقة عادية، بل تعكس وعي المغاربة، الوعي الحضاري بالتعبير عن رفض الاستعمار، تعبيراً بالسلاح وبالقلم أيضاً، أي الدفاع عن مطلب الاستقلال، بكتابة عريضة المطالب التي وقّع عليها نخبة من المغاربة ، في وقت لم يكن العالم يعرف مثل هذا الشكل النضالي، مما كانت له انعكاسات على سياسة المستعمر الذي شعر بالحرج أمام باقي الدول الأوروبية ليتعترف باستقلال المغرب بعد ذلك.
لقد وقع تحول في أشكال النضال ضد المستعمر، فمن الانتفاضات الشعبية المباشرة في الميدان، إلى خوض المعارك الضارية بالأطلس المتوسط وبالشمال والجنوب إلى مراحل النضال السياسي كمناهضة الظهير الاستعماري التمييزي في 16 مايو سنة 1930، وتقديم مطالب الشعب المغربي الإصلاحية والمستعجلة في 1934 و1936، ثم أخيراً تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير سنة 1944. مع ما رافق كل ذلك من أشكال نضالية أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية.. عجّلت بارتفاع منسوب الوعي عند المغاربة، وهو ما يفسّر سرعة القضاء على المستعمر، واسترجاع السيادة المغربية، بخلاف بعض الدول الأخرى التي بقي فيها الاستعمار الفرنسي ثلاثمائة عام مثل السنغال، و125 سنة مثل الجزائر.
وقّع على وثيقة 11 يناير ستة وستون مغربياً، وتم اختيار أربعة وفود لتقديمها في تاريخ واحد موحد، لكلمن السلطان أولاً ثم الاقامة العامة والمفوضية الأمريكية والمفوضية الانجليزية ثانياً. ويوم الحادي عشر يناير كان اختياراً مقصوداً، فهو يوم جرب العادة أن يستقبل فيه السلطان محمد بن يوسف أسبوعياً مستشاراً فرنسياً معتمداً كواسطة بينه وبين الاقامة العامة، حيث بعد استقبال السلطان للمستشار الفرنسي أطلعه بأنه توصل بعريضة تطالب بالاستقلال وأمره بإبلاغ المقيم العام بذلك.
لم يكن تقديم هذه الوثيقة أمراً سهلاً، بل شكّل مخاطرة واضحة، حيث لجأت سلطات الاحتلال إلى لغة التهديد والتخويف بل واعتقال أحمد بلا فريج ومحمد اليزيدي بعد حوالي أسبوعين عن تقديم الوثيقة، مما أدى إلى اندلاع مظاهرات شعبية شملت الرباط وسلا وفاس بالخصوص لأنها المكان الذي خرجت منه هذه الوثيقة، وهو ما واجهته سلطات الحماية بقمع واسع واعتقالات كثيرة، لم تنفع في منع المغاربة من الاستمرار في الاحتجاج والمقاومة،ورافق هذه الأحداث عودة علال الفاسي من منفاه في الكًابون، وإلقاء السلطان لخطابه الشهير في طنجة عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين والذي أعلن فيه صراحة انحيازه الى صف الوطنيين المطالبين بالاستقلال.
واليوم بعد هذه العقود الطويلة من انتزاع المغرب لاستقلاله، وهو يحيي هذه الذكريات الوطنية، فإنه يواصل تحديات أخرى، تتمثل في بناء الدولة الحديثة، على أسس جديدة، فكان إصلاح الدستور وكان تشييد المؤسسات وتطوير القوانين وإطلاق المبادرات الاجتماعية، تحت قيادة السلطان جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، ومن أكبر المشاريع التي أطلقها جلالته والتي لها صلة بالتحديات الكبرى التي يواجهها المغرب في محيطه الإقليمي والدولي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ثم العودة إلى البيت الإفريقي، ثم أخيراً النموذج التنموي الجديد.. إلى جانب الورش الاجتماعي الكبير الذي يقوده جلالته ويشرف على تنزيله.
إن وثيقة 11 يناير تتكرّر اليوم مع إصرار المغرب على تحقيق الاكتفاء الذاتي بل وتوجيه كثير من صناعاته نحو التصدير، فإذا كانت وثيقة 11 يناير تمثل مطلباً للاستقلال ونيل الحرية، فاليوم نشهد مطالب لتحرير الاقتصاد الوطني من كل تبعية، وتحقيق استقلال في صناعة التنمية وفق أسس محلية وجهوية تعيد الاعتبار للكفاءات الوطنية.. ومن شأن هذه الروح العالية في الإصرار على تحسين الوضع المغربي، أن تمنح لبلدنا المزيد من الثبات والاستقرار، والأمل في مغرب غد يسع الجميع، في ظل وحدة وطنية وسلم اجتماعي تحت قيادة رشيدة لمولانا محمد السادس حفظه الله وولي عهده المحبوب الأمير مولاي الحسن حفظه الله، ولعلي أتوقف هنا، ولعل الذكريات الوطنية القادمة تكون فرصة أخرى لتوسيع دائرة التفكير في مزيد من الأبعاد التاريخية والرمزية.