بقلم: د. حسين عبد البصير
مقدمة: مصر أم الحضارات
عصور المجد والخلود
مرت مصر القديمة بعصور ذهبية ثلاثة. وهي عصر الدولة القديمة أو عصر بناة الأهرام، وعصر الدولة الوسطى أو عصر الأدب المزدهر وعصر التطوير والتوسع في الزراعة والري والكثير من المشروعات وحماية ومد حدود البلاد، وعصر الدولة الحديثة أو عصر الإمبراطورية المصرية العظيمة في مصر وأسيا وأفريقيا.
وبعد العصر الذهبي الأول أو عصر الدول القديمة، مرت مصر بفترة اضمحلال، خرجت مصر بعدها قوية إلى عصر الدولة الوسطى حين وصل الأدب المصري القديم إلى القمة، ويعرف هذا العصر بـ»عصر الأدب الكلاسيكي». وبعد هذا العصر الذهبي، مرت مصر بأصعب محنة عرفتها في تاريخها الفرعوني القديم كله، ألا وهي احتلال أرض مصر من قبل قبائل أجنبية، تعرف بـاسم «الهكسوس»، (وتعنى «حكام الأراضي الوعرة» في اللغة المصرية القديمة)، تسللت بطريقة سلمية في غفلة من الزمن إلى مصر عبر حدودها الشرقية وبسطت سيطرتها على أجزاء كبيرة من الأرض المصرية حين ضعفت مصر القوية. وبعد كفاح طويل ومرير، استطاع الملك المصري الطيبي الجنوبي الشهير، «أحمس الأول»، طرد الهكسوس من كل الأرض المصرية ودفعهم إلى الهروب إلى فلسطين. وبتحرير مصر من الهكسوس، نشأت الدولة الحديثة، العصر الذهبي الثالث والأخير في مصر الفرعونية، والذي يعد واحدًا من أروع فترات الازدهار في تاريخ الحضارة المصرية القديمة. وخلال ذلك العصر، اتبعت مصر سياسة خارجية جديدة جاءت كرد فعل على محنة احتلال الهكسوس لأرض مصر. وقامت هذه السياسة على التوسع في الفتوحات الخارجية وضم العديد من الإمارات والممالك إلى زمرة السيطرة المصرية، وهذا ما يعرف بـ»عصر الإمبراطورية» في مصر الفرعونية. ويعد الفرعون تحتمس الأول هو مهندس الإمبراطورية المصرية في آسيا وأفريقيا، ثم أكمل البناء من بعده حفيده الفرعون الأشهر وسيد الملوك المحاربين الملك العظيم تحتمس الثالث، أو نابليون العالم القديم، غير أن تحتمس الثالث أهم وأعظم من نابليون بونابرت؛ لأنه لم يُهزم في أية معركة خلال معاركه العسكرية في حملاته السبع عشرة التي فتحها بها الشرق الأدنى القديم، وما تزال خططه الحربية تُدرس في أكاديميات العالم العسكرية الكبرى. ومن بين أشهر الملوك الفراعنة أيضًا في هذا العصر، أحمس الأول وحتشبسوت وتحتمس الرابع وأمنحتب الثالث وأخناتون وتوت عنخ آمون وسيتي الأول ورمسيس الثاني ورمسيس الثالث غيرهم.
وبعد ذلك العصر، دخلت مصر ما يُعرف بـ»عصر الانتقال الثالث» وفيه ساد التوتر والانقسام واللامركزية الأرض المصرية. وعانت مصر الشيء الكثير في عصر الانتقال الثالث، ثم حاولت معاودة الأمجاد في العصر المتأخر، وحكمت فيه مصر أسرات مصرية كان من بين أهمها عصر الأسرة السادسة والعشرين الصاوية، صاحبة النهضة المصرية القديمة، أو عصر الرينسانس المصري القديم في العصر المتأخر، مع بعض فترات من الاحتلال الفارسي إلى أن جاء الإسكندر الأكبر، وعلى يديه وعلى أيدي خلفائه الملوك البطالمة، تحولت مصر إلى مملكة إغريقية- بطلمية يحكمها الغرباء إلى قيام ثورة 23 يوليو 1952.
واجهة مصر العالمية
كان من أعظم إنجازات البطالمة الحضارية تأسيس مكتبة الإسكندرية، درة التاج الثقافية الكبرى في العالم القديم، والتي تم إحياؤها في العصر الحديث من خلال مكتبة الإسكندرية التي تم افتتاحها في يوم 16 أكتوبر 2002؛ كي تواصل دور مكتبة الإسكندرية القديمة وتكون مكتبة مصر العالمية في كل مكان في العالم كله، وبالفعل أصبحت مكتبة الإسكندرية الجديدة نافذة مصر على العالم ونافذة العالم على مصر من خلال دورها الثقافي والريادي والحضاري في مد جذور الإبداع والحفاظ على التراث ونشر ذلك في كل مكان في العالم اليوم وغدًا. وبهزيمة الملكة البطلمية الشهيرة كليوباترا السابعة على يد الرومان، انتهت حكم مصر البطلمية وصارت مصر جزءًا مهمًا من الإمبراطورية الرومانية.
قلب العالم
لقد أنعم الله سبحانه وتعالي على مصر، قلب العالم القديم، بالموقع الجغرافي المتميز الذي يتوسط قارات العالم القديم. وساهم ذلك الموقع الجغرافي المتميز في تواصل مصر مع جيرانها وسهولة الاتصال والتأثير والتأثر مع حضارات العالم القديم. ومنحها نهر النيل الخالد الذي سهل الاتصال بين الشمال والجنوب ووحّد الدلتا ووادي النيل حضاريًا ودينيًا وثقافيًا منذ أقدم العصور. وكذلك ساهم النهر الخالد في وحدة مصر وتماسكها عبر العصور وتوحيد جهود المصريين وتضامنهم لإقامة الجسور والحفاظ على مياه الفيضان مما جعل المصريين يعيشون كشعب واحد عبر آلاف السنين. ونشّط النهر العظيم التجارة الداخلية بين الشمال والجنوب ودعّم من تواصل المصريين وتماسكهم مع بعضهم البعض، ونشر حضارة الفراعنة في البلاد المجاورة لأرض مصر الخالدة، مما ساعد في إحداث موجات حضارية من التأثير والتأثر المتبادلة بين مصر وجيرانها وإلى ما وراء ذلك من نطاقات حضارية مغايرة.
الحياة على النهر
استقر المصريون القدماء على ضفاف نهر النيل. وكانت الوحدة السياسية ضرورة تستجوبها رغبة المصريين العارمة لدخول التاريخ. وحدثت الوحدة مع بدايات الأسرة الأولى وكانت بداية الانطلاق نحو الكتابة والتدوين ودخول العصور التاريخية والخروج من عصور ما قبل التاريخ إلى رحابة العصور التاريخية. لقد تمت الوحدة السياسية بعد أن تم توحيد البلاد حضاريًا ودينيًا تحت لواء المعبود حورس، الرب المصري الأزلي، وحدثت الوحدة من الجنوب إلى الشمال إلى أن قام الملك حور عحا، أو الملك مينا، بتوحيد مصر في دولة حضارية وسياسية واحدة. وسوف تستمر مصر موحدة أبد الأبدين في موقعها الجغرافي المتميز الذي جعل منها سيدة العالم القديم ومعلمة البشرية وملهمة الإنسانية وصانعة الحضارة ومبدعة التاريخ.
ابن الآلهة
كان الملك هو رأس الدولة المصرية القديمة وكان مصدر كل السلطات خصوصًا السلطتين الدينية والدنيوية حتى يكون قادرًا على القيام بمهام الملكية المقدسة الملقاة على عاتقه. وكان الملك يدير السياسة الداخلية من خلال جهاز الإدارة الداخلية ممثلاً في منصب الوزير سواء أكان وزيرًا لمصر كلها أو وزيرًا للشمال وآخر للجنوب أو ممثل الملك في النوبة وكبار رجال الدولة وحكام الأقاليم. وكان للملك الحق في إصدار المراسيم والقوانين التي تكفل تحقيق العدالة والأمن والاستقرار للمجتمع. وكان الملك يمثل الآلهة على الأرض. وكانت الملكية مقدسة في مصر القديمة. وكانت للملك مهام عديدة ومهمة. وكان أهمها إقامة العدل وتحقيق الأمن والاستقرار والرخاء لأرض مصر وشعبها. وكان إمداد معابد الآلهة بالقرابين وتحقيق الخدمة اليومية بالمعابد المصرية من أهم وظائف الملك المصري القديم باعتباره ابن الآلهة وممثلاً لسلطتهم الدينية على الأرض. وكان الفرعون يدير السياسة الخارجية من خلال التمثيل الدبلوماسي وعقد المعاهدات الدولية وقيادة الجيش وإعلان الحرب ويدير مجلس الحرب، وكان يقود المعركة بنفسه أو يكلف قائد الجيش بذلك. غير أن تأمين أرض مصر والدفاع عنها كان من أهم مهام الفرعون في مصر القديمة. وكان الملوك في مصر القديمة يقومون بكل تلك المهام خصوصًا حماية أرض مصر والدفاع عنها وتوسيع أرض مصر، إذا دعت الضرورة إلى ذلك، منذ أقدم العصور. وفي الأغلب الأعم نجح ملوك مصر الفرعونية في القيام بمهامهم الملكية المقدسة على أكمل وجه.
رمانة الميزان
كانت المرأة في مصر القديمة هي سيدة المجتمع المصري القديم بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وحصلت على ما حصلت عليه المرأة في العالم المعاصر من زمن بعيد قبل. ولولا المرأة المصرية القديمة، ما كانت مصر القديمة؛ فالمرأة المصرية هي رمانة الميزان ومركز الدفع والتحفيز على العمل والإبداع وشحذ الهمم والطاقات لدى رجال مصر العظام. وسبقت مصر العالم في احترام المرأة ومنحها حقوقها كاملة. وتمتعت المرأة في مصر القديمة بمكانة عالية وحظت حقوق كثيرة لم تحظِ بها مثيلاتها في العالم القديم، بل في العصر الحديث إلا منذ فترة قريبة. وكان دور المرأة في مصر القديمة كبيرًا ومهمًا للغاية؛ وكانت مساوية للرجل، ومشاركة له في الحياة، وملازمة له في العالم الآخر.
كانت سيدة مجتمعها ووصلت لأعلى درجات التقدير فيه. وكانت خير رفيق للرجل في الدنيا والآخرة. وتميزت بالسبق والإبداع والتميز في مجالات عدة. وحملت العديد من الألقاب سواء في البيت أو في القصر أو المعبد أو في المجتمع. وشجع المجتمع المصري القديم على الزواج ونصح الحكماء بالإقدام عليه في سن مبكرة. وكانت المرأة المصرية القديمة سيدة في بيتها. وتنوعت أدوارها في مجتمعها منذ بداية الحضارة المصرية القديمة. وحملت من الألقاب ما يدل على ذلك مثل لقب «نبت بر» أي «سيدة البيت»، مما يدل على عظم المكانة والتقدير الذي حظيت به في بيت زوجها. فكانت تقوم بأعمال بيتها وتساعد زوجها في عمله مثل العمل في الحقل وأعمال الزراعة وعمل السلال والحصر وتربية الماشية والطيور وطحن الحبوب وتجهيز العجين وخبز الخبز والفطائر في الفرن وصناعة الجعة وورش النسيج. وكانت تعمل كمربية للأبناء والبنات في بيوت كبار رجال الدولة والملوك. وكانت أيضًا تعمل في المعابد. وكان البعض منهن يجيدن القراءة والكتابة والحساب.
حب إلى الأبد
منذ أقدم العصور حكم الملوك أرض مصر، وكذلك حكمت المرأة المصرية القديمة البلاد بانفراد مما يدل على عظمة الشخصية المصرية ومدى تحررها وانفتاحها والسماح للملكات بأن يعتلين عرش مصر مثل الرجال. وكان إسهامها في ذلك لا يقل عن إسهام الرجل. وكان دور بنات الملوك مهمًا وحلقة وصل في سلسلة تتابع الملوك على العرش؛ نظرًا لما يجري في عروقهن من دم ملكي، وكان لمن يتزوجهن الحق في أن يصبح حاكمًا على مصر. ويوضح ذلك دور الملكات المصريات الرائد وعظمتهن في انتقال الحكم، وفي تكوين ملوك مصر العظام.
التكملة في العدد القادم