بقلم: د. حسين عبد البصير
الباب الثاني: السجون
الانتحار
لم يكن الانتحار معروفًا على نطاق واسع في مصر القديمة. واعتقد البعض أن إنسانًا مصريًا قد انتحر. والحقيقة أن هذا عمل أدبي يُطلق عليه «اليائس من الحياة». وهو من النصوص الأدبية الجميلة والمهمة التي جاءت لنا من مصر القديمة. وهو عبارة عن حوار أدبي ذي مغزى فكري وديني وسياسي بين اليائس من الحياة وروحه. ولهذا الحوار صفة النزاع الكلامي والجدل الفكري بين الذات المتمثلة في الفرد الذي يأس من حياته نظرًا لانتشار الظلم والفساد في العالم وبين الروح التي تسعى لإقناع الذات للإقدام على الانتحار كي تتخلص من مساوئ هذا العالم المليء بالأزمات والفوضى.
كان الواقع الاجتماعي الذي كان يعيش فيه ذلك الرجل ظالمًا حيث ساءت أحوال البلاد والعباد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وانتشر الشر والفساد في كل مكان ولم تعد لقيم الخير مكان عند الناس فقد قل الأمن والأمان والوفاء لدرجة أنه لم يعد للإنسان من صديق أو أخ أو جار يتحدث إليه فالإخوة والأصدقاء أصبحوا أعداء لبعضهم. وغدت الثروة والنفوذ بيد الفاسدين الأشرار؛ لذلك فقد أراد ذلك الرجل أن يتخلص من حياته بحرق نفسه، لكن روحه عارضته وهددته بأنها ستهجره في العالم الآخر. ولكنه أيضًا ومن خلال حواره مع روحه كان حريصًا على إرضائها وبقائها معه فأخذ يحاورها، وتحاوره وأخذت تخيره ما بين الرضا بالواقع والحياة معًا، أو الرضا بالموت والإقدام عليه. وكفت عن الحديث وامتنعت عن مناقشته. ولكن ما لبثت حتى عاود التفكير فيما دعته إليه واعتزم أن ينتقل وإياها إلى عالم الآخرة. وبدأ يستدرجها في الحديث أملاً في أن تشجعه وتساعده في اتخاذ قرار محدد. وأشهد عليها جمعًا تخيله من الناس. وتصنعت الروح الغضب مرة أخرى. وأجابته وهي تؤنبه: «الست رجلاً يافعًا عشت الحياة من قبل، فماذا حققت؟». ثم قصت له قصة رجل فقد زوجته وأولاد نتيجة إعصار ألقى بهم في بحيرة تعج بالتماسيح في سواد الليل. وهدفت الروح، من رواية هذه القصة وأخرى تلتها، أن تقنع صاحبها بأنه إذا تأمل الآخرين هانت عليه بلواه. لكنه دخل معها في جدل آخر عن قيمة الحياة التي تدعوه إلى الرضا بها بعد أن فقد فيها الكرامة والثقة والأمل في الناس ونظم إجابته من خلال أربع قصائد نثرية.
تحدث عن الموت الذي فيه خلاصه من مأساته. وأكد على إيمانه بالحياة بعد الموت وإيمانه بالثواب والعقاب وعدل الأرباب فيها. وقال لها: «وها هو الحق.. الحق من وصل للعالم الآخر سيكون معبودًا يحيا به فيرد الشر على من أتاه. وها هو الحق من وصل هناك سيكون عالمًا بالأسرار وكل بواطن الأمور».
وهكذا انتهت البردية البليغة. فكانت أبلغ من هذا. وكان هذا اليائس يعيش في صراعه مع روحه. ومن تلك البرية يتضح أن الأسلوب السردي أو السياق والنظام العام الذي استطاع من خلاله القاص المصري القديم رسم ووضع العناصر الرئيسية للقصة، خاصة الزمان والمكان وحركة الأشخاص، مما ساعد على الحبكة الدرامية مما تحمله من تنوع في الأحداث والمواقف داخل الإطار القصصي، وحافظ على حيوية وتدفق وتتابع الحكاية.
أما عن الانتحار بالفعل، فهناك نص بردية تورين القضائية الشهيرة التي تتحدث عن مؤامرة الحريم على حياة الملك رمسيس الثالث، وانكشفت المؤامرة، وحُقق فيها بأمر من الفرعون. وحكمت المحكمة على المتهمين بأحكام تتراوح بين الإعدام والانتحار والجلد والسجن وقطع الأنف وصلم الأذن والبراءة، كل وفقًا لدوره وجريمته في تلك المؤامرة المشينة.
تلك هي مصر القديمة المبهرة بثرائها الأدبي والفكري والقانوني الذي علّم الحضارات وألهم الإنسانية.
تلك هي مصر القديمة المبهرة بثرائها الأدبي والفكري والقانوني الذي علّم الحضارات وألهم الإنسانية.
الإعدام
إن من أروع المصادر الأثرية في مصر بردية تورين القضائية التي تتحدث عن عقوبة الشنق والإعدام في مصر الفرعونية.
كان الملك الفرعون رمسيس الثالث يعيش مع أفراد عائلته والمقربين من حاشيته فى القصر الملكى. وحفلت حياة القصور الملكية بالعديد من الأحداث بسبب الغيرة والطموحات والمؤامرات، ونتج عنها بصراعات كثيرة وكبيرة. وكان أهمها الصراع والتآمر على العرش بين الزوجات الملكيات أمهات أولياء العهود الشرعيين والزوجات الثانويات ومن المعروف أنه كانت لآخر فراعنة مصر العظام الملك رمسيس الثالث زوجة ثانوية باسم «تي». وقامت هذه الملكة بمؤامرة ضد حياة الفرعون. وكانت هذه من المرات القليلة التي تحدثنا النصوص الفرعونية عن شيء كهذا. وأبنائهن الراغبين في حكم مصر بعد رحيل الملك الأب. ووصل التآمر إلى حياة الملك نفسه.
مؤامرة الحريم
نعلم عن تلك المؤامرة من المحاكمات التي تمت للمتهمين من بردية تورين القضائية. وتعرف المؤامرة بـ «مؤامرة الحريم».
وشارك في المؤامرة عدد من حريم القصر الملكي وبعض سقاة البلاط وحرسه وخدمه.
ولم يعرف هدف هؤلاء المتآمرين. ولعل السبب الأساس لتلك المؤامرة أن هذه الملكة الثانوية «تي» بالتعاون مع بعض نساء القصر خططت لاغتيال الملك كي تضع ولدها «بنتاورت» على عرش مصر بدلاً من ولى العهد الشرعي، الملك رمسيس الرابع بعد ذلك.
تم قتل الفرعون. انكشفت المؤامرة. وحُقق فيها بأمر من الفرعون. وحكمت المحكمة على المتهمين بأحكام تتراوح بين الإعدام والانتحار والجلد والسجن وقطع الأنف وصلم الأذن والبراءة، كل وفقًا لدوره وجريمته في تلك المؤامرة المشينة.
ومن المعروف أن هناك مومياء لرجل غير معروف في المتحف المصري بميدان التحرير. وتعرف علميًا بـ «مومياء الرجل غير المعروف إي». ويشيع تعريفها بـ «المومياء الصارخة» أو «مومياء الرجل الصارخ».
أثبتت الدراسات الحديثة على مومياء الملك رمسيس الثالث والمومياء غير المعروفة في المتحف المصري في ميدان التحرير أنه تم قتل الملك بقطع رقبته من الخلف بسكين حاد.
وأثبتت نفس الدراسات الحديثة أن «مومياء الرجل غير المعروف إي» أو «المومياء الصارخة» أو «مومياء الرجل الصارخ» كانت لابن الملك بنتاورت، الذي أُجبر على الانتحار وشنق نفسه بيده من خلال علامات الحبل الموجودة على رقبته.
وتم عقاب ذلك الابن أشد عقاب بعدم تحنيط جثته ودفن جسده في جلد الغنم الذي كان يعتبر غير طاهر في مصر القديمة، وبناء على ذلك سيذهب إلى الجحيم في الآخرة.
وتؤكد تلك الأحداث صدق الأساليب البلاغية التي تم استخدامها في نص المؤامرة الأدبي حين أشار إلى أن القارب الملكي قد انقلب، مما يرمز إلى وفاة الملك رمسيس الثالث وصعود روحه إلى السماء.
غير أن المؤكد أن المؤامرة قد فشلت بدليل تولى خليفته الطبيعي وولى العهد رمسيس، الملك رمسيس الرابع لاحقًا، عرش البلاد بدلاً من أخيه بنتاورت المتآمر.
ويجيء هذا النص الفريد الذي يذكر تلك الواقعة المثيرة ضمن النصوص الفرعونية الرسمية. وهذا يشير إلى تغير كبير حدث في مفهوم الملكية الفرعونية التي أصبحت هنا تميل إلى تصوير الفرعون في صورة بشرية إنسانية به ضعف مثله في ذلك مثل باقي البشر العاديين، ولم يعد ينظر إلى الفرعون على أنه إله يحكم على الأرض نيابة عن آبائه الآلهة.
ولا نعرف شيئًا عن مصير الخائنة الملكة تي. وإن كان ذكر التاريخ لقصة هذه الملكة الخائنة ومؤامرتها لقتل زوجها فاضحاً للغاية وكاشفًا لسيرتها غير المشرفة.
ولقد ساهمت الغيرة بين نساء القصر الملكي والصراع على العرش في ذلك.
غير أن تلك كانت حالات قليلة في مصر القديمة التي كانت مثل أي مجتمع قديم أو حديث لها من الصفات الحميدة وغير الحميدة مثل ما عند كل البشر في كل زمان ومكان.
وكان حكم المحكمة على المتهمين بأحكام تتراوح بين الإعدام والانتحار، كل وفقًا لدوره وجريمته في تلك المؤامرة المشينة، من بين الأحكام والحالات المعروف في هذا الشأن في مصر القديمة.
بناء وتزيين المقابر
قام المصريون القدماء بتشييد مقابرهم الجميلة والعديدة رغبة منهم في تحقيق البعث والخلود في العالم الآخر بعد الموت في الحياة الأولى، وأملاً في العيش حياة خالدة في الحياة الثانية. وقام بمهمة بناء وتزيين المقابر العمال والفنانون المهرة الذين كانت مهمتهم الأساسية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول هو بناء المقبرة، والقسم الثاني هو تزيين المقبرة بالنقوش والرسوم الملونة.
واعتمد بناء المقبرة في مصر القديمة على عدد من العوامل الضرورية، وكان من بين أهمها جغرافية وجيولوجية الجبانة التي سوف يتم فيها بناء المقبرة، ودرجة صاحب المقبرة في المجتمع وكذلك مدى الثراء الذي كان يتمتع به، وكذلك الوقت المخصص للانتهاء من بناء المقبرة وتزيينها في حياة صاحبها. وعكست المناظر المصورة داخل المقبرة درجة صاحب المقبرة في المجتمع ومدى ثرائه، وكذلك الذوق الفني لصاحب المقبرة أو صاحبتها، وكذلك أوضحت مهارة فريق العمل من العمال والفنانين الذين قاموا بالعمل في بناء المقبرة وتزيينها.
واستخدم العمال المصريون القدماء عددًا من التقنيات في بناء المقابر المصرية القديمة، كان من بينها البناء بالطوب اللبن والبناء بالحجر والبناء بالكامل داخل الصخر الطبيعي للجبانة، وقد تم بناء المقابر المصرية القديمة ببعض هذه الطرق منفردة أو ببعض منها مع البعض الآخر. وكذلك اشتمل تزيين المقابر من الداخل على عدد من الطرق التي تنوعت بين النقش بنوعيه البارز والغائر والرسم والتلوين على أسطح المقابر.
المقابر المصرية القديمة
تتكون عمومًا المقابر المصرية القديمة من قسمين أساسين في بنائها وهما: البناء العلوي وكان يضم مكان تقديم القرابين، والبناء السفلي وكان يضم حجرة الدفن. وتم استخدام نوعين في بناء المقابر وهما: النوع الأول وهو البناء المستقل بذاته مثل المصاطب والأهرامات والمقابر على شكل معابد، وعادة كان يمكن بناء كل هذه المقابر من الطوب اللبن أو من الحجر، وكان النوع الثاني هو البناء في الصخر أو المقابر الصخرية والتي تم نقرها في الصخر الطبيعي للجبانة. وكان هذا النوع من المقابر يتكون عادة من سلسلة من الحجرات المنحوتة في عمق الصخر وكان يوجد مدخلها عادة على واجهة صخر الجبل. ومعظم أبنية المقابر السلفية عادة منحوتة في الصخر وتشتمل على آبار مقطوعة لأسفل في الصخر وتفتح في حجرة أو حجرات، أو سلم وممرات تقود إلى الحجرات الأساسية. ويعد أيضًا من الصعب تحديد مدى الزمن الذي تم فيه بناء المقابر وتزيينها. وحدد بناء وتزيين المقبرة وعدد العمال الذين عملوا فيها الوقت الذي كان يمكن أن ينتهي فيه بناء وتزيين المقبرة. وتأتي أغلب معلوماتنا عن بناء وتزيين المقابر من المقابر الملكية في مصر القديمة. وكان أسبوع العمل في مصر القديمة يتكون من ثمانية أيام عمل ويومين أجازة أسبوعية؛ إذ كان الأسبوع مكونًا من عشرة أيام في مصر القديمة والشهر من ثلاثين يومًا. وكان العمال يعملون الثمانية أيام لمدة ثمانية ساعات في اليوم إلا إذا اقتضى الأمر زيادة ساعات العمل عن ذلك العدد لإنهاء العمل في المقبرة بشكل سريع.
التكملة في العدد القادم