بقلم : نعمة الله رياض
قبل نحو ساعة من إنتهاء الدوام اليومي، طلبت مني الإدارة التوجه للمشرحة لمعاينة جثة وصلت لتوها ، تمهيداً لتشريحها وإعداد التقرير المطلوب .. يا الله ، متي سينتهي هذا الواجب الثقيل علي نفسي ، أربعة عشر عاماً قضيتها حتي الآن في المشرحه بسأم متزايد ، مللت مشاهدة الجثث ، وارهقني منظر الأموات وأجسادهم التي باتت تطاردني في كل الأماكن والأحلام ، حتي إنه أتلف أعصابي ، ليس لإنسان أن يتحمل مثل هذا الكم من الإكتئاب ، أهرب من رعبي الذي لا ينتهي نهاراً إلي الكوابيس التي تداهمني ليلاً.. كنت لا أفتأ أقدم طلبات لإدارة المستشفي ، أطلب نقلي لأي من الأقسام الأخري، وأرفق تقارير طبية تؤكد حالات إكتئاب شديدة ، لكن دون جدوي ..
إستدعيت مساعدي أشرف وتوجهنا لغرفة التشريح، طلبت منه إخراج الجثة من درج الثلاجة ونقلها لمائدة الفحص.. ناولني أشرف البطاقة المرفقة بالجثة ، كان مدون بها ، الإسم : نرمين إبراهيم موسي – العمر : أربعة وثلاثون عاماً –المهنة : فنانة – حالة الجثة : وجدت بشقتها بحي الزمالك ، حيث تقيم بمفردها ، مطعونة بسكين في صدرها بمنطقة القلب..
عندما كشفت عن وجه الجثة وجسدها ، هالني ما رأيت .. لم أشاهد من قبل جثة بهذا القدر من الجمال الذي يضاهي تمثالاً من المرمر الشديد البياض، نحته بأزميل نحات إغريقي بارع لآلهه الحب ، ولا يعكر جمالها إلا ذلك الثقب الغادر الملوث بالدماء الجافة ، الذي أحدثه نصل السكين في صدرها .. يا إلهي، من سولت له نفسه إنهاء حياتها وهي بهذه الإستكانة والوداعة..
لإول مرة منذ أن تسلمت العمل في المشرحة، أشعر أنني لا أريد أن يتواجد معي فى غرفة التشريح أي كائن آخر .. طلبت من أشرف أن يشتري لي دواءاً يندر وجوده في الصيدليات، كما يحضر لي أيضاً بعض الشطائر لوجبة الغذاء
أصبحت وحيداً في الغرفة مع نرمين ، أقصد جثة نرمين ! ، خلعت القفازين وإنحنيت قليلاً نحو جسدها أتفرس في وجهها وشعرها المنسدل الذي يغطي أذنيها ويلامس خديها حتي أسفل ذقنها .. كانت جفونها مغلقة تنتهي برموش طويلة تبرز جمال وجهها ، وتحت أنفها الجميل ذلك الفم المرسوم بعناية ودقة رسام موهوب ، وشفتين مكتزنتين تنبئ بأنها بصدد الإسرار بشئ ما ، وكأنها في إغفاءة قصيرة وستستيقظ بعد قليل !! .. أصبت بالذهول مما أري ، كيف وصل هذا الجسد الخلاب لهذه النهاية ؟ أحسست تجاهها بمشاعر غريبة لم أشعر بها من قبل .. هل يمكن أن تحدث مشاعر بين طبيب وجثة ؟!!
غادرت المستشفي في طريقي للمنزل ، في السيارة حاولت جاهدا” ، لكن بلا جدوي ، تذكر صورة نرمين، أدركت الآن لماذا يعلق الناس صور أحبائهم الموتي علي جدران منازلهم..
في الليل وأنا راقد علي فراشي ، كنت أستحضر تلك اللحظات التي رأيت فيها
نرمين ، فلم يحدث أن أعجبتني جثة لهذا الحد ، لم أعد أريد أن أمزق بمشرطي هذا الجمال الطبيعي النائم ..
كانت ترتدي ملابس السهرة البراقة وتمسك بيدها مكبراً للصوت ، وباليد الأخري تزيح شعرها الناعم المموج بعيدا عن وجهها ، ثم تشير للفرقة الموسيقية بالبدء في العزف وتجاوبت مع الموسيقي ، وتمايلت بقوامها الفارع وهي تقلد أغنية معروفة لمطربة شهيرة وسط تصفيق وإستحسان رواد النادي الليلي .. عندما إنتهت ، دعوتها للجلوس علي مائدتي وطلبت لها مشروبا” ثم طلبت مشروبا” مرة ثانية وثالثة .. سألتني أن أراقصها ، ذهبنا لنرقص ، أمسكت يدي ووضعت رأسها علي كتفي ، نظرت إلي طويلاً بعينيها الرماديتين وقالت:
- أشعر إني رأيتك من قبل !!
ثم بتوسل :- لا تتركني وحدي أرجوك ، ضممتها بقوة لصدري وقبلتها في شفتيها بجنون ، عند خروجنا من النادي، طلبت مني توصيلها لشقتها ، جلست بغرفة الإنتظار ، وذهبت لإحضار مشروب ، عند عودتها ، نظرت إلي وجهها طويلاً أحاول أن أتذكر أين رأيتها من قبل!! .. رن جرس الباب، عندما ذهبت لتعرف من الطارق ، فوجئت برجل ضخم الجثة ، لم أتبين ملامحه ، يقتحم الشقه ويعدو خلفها وهي تصرخ ويطرحها أرضاً ويطعنها بالسكين وهو يسبها بالفاظ بذيئة.. إستيقظت صارخاً مفزوعاً من نومي ، ولم أنم مرة أخري حتي الصباح ..
في الصباح الباكر ، إرتديت ملابسي علي عجل ، وذهبت كالمحموم إلي المستشفي ، دخلت مباشرة إلي الغرفة ثم أزحت جفنيها إلي أعلي ، ونظرت لعينيها ، كانت العينان لونهما رمادي !! لا أظن اني رأيت عينيها منذ بدأت الفحص ، شئ غريب كهذا هزني، وبعث في نفسي الإضطراب ..هل يمكن للجثة أن تكشف لنا أسرار تخبرنا بها ساعة الحلم ؟ وهل الكابوس الذي عانيت منه ليلة أمس لنرمين ، أو شبحها ، ينبئنا بما حدث؟..والسؤال المخيف ، هل عند الجثة إحساس بوجودي بجانبها ، ولا تريد أن أتركها وحيدة دون أنيس ؟ وهل تشعر بما يختلج في نفسي، ومدي تعلقي بها.. أسئلة محيرة كانت تدور في عقلي بلا أجابات …
إنتظرت الإدارة طويلاً أن أكتب تقريراً عن التشريح ، لكني كنت عاجزاً ولا أجسر علي شق جسدها المسجي بالمشرط .. كنت أختلق أسباباً لهذا التأخير ، وكنت أماطل لعدة أيام، وفي كل يوم أستخرج جثتها وأرنو اليها طويلاً بدون ملل ..
أبلغني أشرف أن الإدارة قد كلفت طبيباً آخر بتشريح الجثة ، بدعوي تأخري الغير مبرر عن تقديم تقرير التشريح المطلوب …
للمرة الأخيرة قدمت طلباً لتحويلي لقسم آخر بالمستشفي ، رفض الطلب كالمعتاد ، فقدمت إستقالتي …