بقلم: إدوار ثابت
هذه الحكاية تربوية وتعليمية معاً ، توضح في مضمونها ومغزاها أن الصغار من الأطفال والشباب لابد وأن يسمعوا إلى من يمتلك الخبرة والتجربة ، فلا يتصلبون في آرائهم لأن الخبرات والتجارب تضفي على خابريها الفهم والأدراك مما ليس بالأطفال والشباب فيبثونها إليهم ويعلمونهم بها ولاسيما إذا كانت الرابطة بين أولئك وهؤلاء رابطة قوية لا تخضع الآراء فيها لشوائب أو لنواحي شخصية أو نفسية تمس هذه الآراء .
أما ما بين الكبار وبعضهم البعض – وهذا ما ليس في مضمون الحكاية – فالأمر يتشابه في ناحية ويختلف في ناحية ثانية ، فهو يتشابه إذا كانت العلاقة بين الطرفين علاقة راسخة ونقية تخلو من تلك الشوائب ولا تخضع لها فتكون آراء من يبديها لغيره آراءً صائبة في مصلحته إلا إذا كانت الأقدار تحول دون ذلك . والأمر يختلف لو أن العلاقة بين الطرفين على العكس منها ، فكثيراً ما يكون رأي الإنسان الذي يبديه لغيره رأياً خاطئاً ليس في صالحه سواء كان ينبع من حقد شخصي أو نية ما ، وذلك ما لابد أن يدركه من يسمع الرأي فيقلبه من أطرافه قبل أن يأخذ به فيكون له حينذاك موقف يرجع إلى مصلحته هو . أما الآراء العامة الإجتماعية والثقافية والإقتصادية والسياسية وغيرها ، وهذا ما يختلف فيه كثيرون من الأشخاص والنقاد أو يتشابهون ، فلابد أن يكون للإنسان فيها رأي شخصي لا يتأثر فيه بآراء غيره ، حتى لو أقتنع بها أو لم يقتنع فرفضها وأنكرها ففي كل ذلك لا بد أن يكون له الرأي الخاص به والذي ينبع منه دون أنحياز لرؤية بيئية أو أيديولوجية (الأيديولوجية) هي:
مبدأ ينبع من مذهب أو عقيدة يرتبطان بالآراء الشخصية أو بآراء فئة من فئات المجتمع) تمس تلك الآراء حتى ولو أختلفت عن بيئته وأيديولوجيته اللتين يقتنع بهما وله الحرية في أن يدافع عنها ويعارض من يعارضها دون أن يحجر على رأيه ودون أن يشينه أويؤذيه وهذا ما يخضع له الرأي الحر والنقد الصائب. وهذه الحكاية شخصياتها كما وضعها الكاتب هي طائر السنونو والبعض من صغار العصافير ومعهم شخصية إنسانية ، فالسنونو يرمز به إلى الرجل المجرب ذي الخبرة أما صغار العصافير فيرمز بهم إلى النشء من الصغار والشباب . والسنونو يتبع فئة من فئات العصافير ، وهو من الطيور المهاجرة التي تهاجر في أسراب تقبل فيها إلى أوروبا في شهري مارس وأبريل لتعلن عن بداية الربيع فتبنى أعشاشها بين الأشجار وفي الشقوق وتضع فيها أفراخها ، وتظل فترة ثم تحتشد مرة ثانية فترجع في شهري سبتمبر وأكتوبر إلى أفريقيا حيث الدفء مثل طيور السمان التي تستوطن أنحاء أوروبا في فصل الصيف وتهاجر في الشتاء إلى الحبشة والسودان وبعضها يأتي إلى مصر وخاصة إلى شواطئ الإسكندرية عندما يقبل الخريف . يرمز لافونتين بالسنونو إلى الرجل المجرب المخضرم الذي يجوب البلاد ، ويعرف العالم جيداً فيكتسب من طوافه خبرة ومعرفة يلقيهما على الصغار والنشء لتثقيفهم أو لتحذيرهم فقد حذر السنونو في الحكاية صغار العصافير من خطر يمكن أن يحدق بهم. فلم يُرضهم حديثة ولم يطمئنوا إليه فتعرضوا للأذى .
تقول الحكاية :
السنونو في إحدى رحلاته ، وكان قد تعلم كثيراً مما رآه
أحس يوماً أنه قد يتعرض للأحتجاز أو الأسر
مما يمكن أن يتعرض له من عواصف ، وقبل أن تلوح
يدرك ذلك ويعلنه إلى صغار العصافير
فيأتي إليهم في الوقت الذي تبذر فيه بذور القنب (1)
عندما يرى أحد المزارعين يخطط الأرض خطوطاً
ويقول لهم : ذلك الذي أراه لا يروقني ومنه أشفق عليكم
أما أنا فلهذا الخطر المحدق سوف أنأى وأبتعد
أو أمكث وأنزوى في ركن من الأركان
وتنظر إليه العصافير وكأنما يستفسرونه فيقول لهم .
أترون في الزارع هذه اليد التي تمتد في الهواء (لتنثر الحبوب على الأرض) (2)
فسوف يأتي اليوم وهو ليس بعيداً الذي تنشر فيه الدمار لكم
فتضع الشباك والشرك(3) التي تقتنصكم
وتودي بكم إلى الأسر والهلاك يوم أن تأكلوا من هذه الحبوب
فأحذروا هذه الشرك والأواني لأنها ستأسركم
وتسخر العصافير مما يقوله السنونو
فهم يمكثون في أرض زاخرة بالكثير لا يريدون أن يتركوها
فيقولون له معارضين :»هذا العمل الذي تدفعنا إليه
سيكلفنا الآلاف حتى ننتزع من هذه الناحية»
وعندما يخضر النبات يحذرهم مرة ثانية
فيحثهم على أن يحملوا أفراخهم التي توالدوها
بعيداً عما تنتجه هذه البذور المكروهة
ولكن العصافير يسخرون منه ويتهمونه بتنبؤه بالشقاء
وعندما توشك البذور أن تنبت لم يمتنع السنونو عن تحذريهم
فيقول لهم « حينما ترون الأرض مغطاة بالنبات «
ولاينشغل الناس إلا بسنابلها
فسوف تنشب الحرب لكم بهذه الشرك التي تقتنص صغار العصافير
وليس عليكم في ذلك إلا أن تهربوا إلى مكان بعيد ليس أكثر
فلتختبئوا في أعشاشكم أو لتغيروا تلك البيئة
وأحتذوا بالبط والكركي والدجاج
أعرف أنكم لستم قادرين مثلنا لتجتازوا الصحراء والبحار
أو لتبحثوا عن غير هذا العالم
ولهذا فليس عليكم إلا ما تضمنون به أنفسكم
فلتجأِؤون فيه إلي الشقوق بالحوائط تنزوون فيها وتختبئون بها
ورغم كل تلك التحذيرات تنفر العصافير من سماع السنونو
فتأخذ في شقشقتها ولهوها
ولكن هيهات ماذا فعل الطرواديون
عندما تحدثت إليهم البائسة (كاسندرا)
فقد وقعوا في الأسر كالعبيد كما وقع العصافير عندما أقتنصتهم الشباك والشرك
ونحن بغزيرتنا لانسمع إلا ما في نفوسنا
ولانقتنع بالخطر إلا عندما يحدث
Nous n’écoutons d’instincts que ceux qui sont les nôtres
Et ne croyons le mal que quand il est venu
هذا ما يقوله لافونتين في حكايته التي ينظمها بالشعر وهذا هو مغزاها ويأتي على بالي في هذا المجال مثلٌ كانت تلقيه علينا أُمُّنا عندما نتمرد على نصيحة نستهين بها . فكانت حينذاك تقول لنا بلهجة أهالي الصعيد المصرية :
« اللي ما يسمعش لكَبيره يا تعتيره» أي يا عثراته أي يا زلاته أو أخطائه .
ولكن من هي كاسندرا التي يضعها الشاعر ضمن حكايته فيقول عنها « ماذا فعل الطرواديون عندما تحدثت إليهم « فهو يترك ذلك لمن قرأ ملحمة الألياذةL’iliode التي كتبها الشاعر الأغريقي هوميروس Homère وكتب معها الأوديسة L’odyssée في القرن الثامن قبل الميلاد والتي كانت تحكي عن حرب طروادة ، وفيها عندما هبت جيوش الأثينيين لأسترجاع الفاتنة (هيلين) زوجة مينلاوس ملك أسبرطة التي أغواها (باريس) أبن (بريام) ملك طروادة وأختطفها وفر بها إلى بلاده ، ولم يستطع الأثينيون أجتياز المدينة لأن أسوارها كانت محصنة فيبتكرون حيلة يصنعون فيها حصاناً خشبياً ضخماً يختبئ فيه
بعض المحاربين وتنأى الجيوش إلى مكان ناء لا يراها فيه الطرواديون . وعندما يقبل الغد يرى الطرواديون الحصان فيعتقدونه وسيلة لعرض السلام معهم فيرغبون في أخذه إلى داخل المدينة أستحساناً به وبفوزهم في الحرب .
أما (كاسندرا) وهي أخت باريس وأبنة الملك بريام فتقول الأساطير الأغريقية . كانت معشوقة أبوللو Apollon إله البرق والتنبؤ وحامي الفنون وموحي الشعر والموسيقى وأبن زيوس Zeus كبير الآلهة وأخي أرتيميس ربة القمر والصيد التي تماثل ديانا عند الرومان القدماء . ولعشق أبوللو لكاسندرا فقد منحها القدرة على التنبؤ بالمستقبل ومعرفة الغيب ، وعندما أنكرت عليه عشقه يقرر أن تتنبأ فلا يسمع لها . فما أن يرغب الطرواديون في أخذ الحصان إلى المدينة حتى تعارضهم وتحذرهم بما سيجلب لهم الدمار والشقاء ولكنهم لم يقتنعوا بحديثها ، ويجذبون الحصان إليهم . وعند الليل يتسلل منه من كانوا قد أختبأووا فيه من المحاربين الأثينيين ويفتحون أبواب المدينة إلى جيوشهم فيهجمون عليها ويدمرونها ويقتلون أهلها ويأسرون نساءها ويحرقونها كلها .
وهذا ما يرمي إليه لافونتين عندما يقول ماذا حدث للطرواديين عندما تحدثت كاسندرا إليهم ‘ فهو يطابق بين صغار العصافير التي لم تسمع إلى السنونو وأستهانوا بحديثه فوقعوا في الأسر مثلما لم يسمع الطرواديّون لكاسندرا عندما تحدثت إليهم ولم يأبهوا لها فوقعوا في الأسر وتعرضوا للدمار .
1-القنب نبات ذراعي ليفي تصنع من لحائه الحبال وبعض الأنسجة الليفية ويصنع الذيت من بذوره وهناك بعض منه ينتج مخدر الحشيش الممنوع زراعته في مصر
2- لم يوضح لافونتين هذه الجملة ولكننا وضعنا للإيضاح وإدراك ما بها .
3- الشرُك أو الأشراك جمع شرَك وهي حبالة الصيد أو المصيدة ، والشرك هنا هي المصائب التي يضعها المزارعون في أنحاء الأرض الزراعية لأقتناص الطيور التي تحاول أن تأكل من نبات الأرض .