بقلم: د. خالد التوزاني
سيظل يوم الجمعة 16 أكتوبر 2020، خالداً في ذاكرة المغاربة، لأنه اليوم الذي فتحت المساجد أبوابها لأداء صلاة الجمعة، بعد إغلاق دام عدة شهور، بسبب جائحة كورونا ( كوفيد 19)، التي اجتاحت العالم أواخر 2019 وطيلة العام 2020، حيث عطّلت الكثير من المصالح والأنشطة، وكانت لها أضرار كبيرة على إيقاع الحياة اليومية، سواء المادية أو المعنوية.
وبعد عدة شهور من غياب التجمعات الدينية الكبرى، ضمن إجراءات الحجر الصحي وحالة الطوارئ، تم السماح أخيرا وابتداءً من هذا اليوم الجمعة بأداء الصلاة في مساجد المغرب، وبذلك تعود الروح لبيوت الله، وتعود الروح لُعمّار هذه البيوت الطاهرة، ليلتقي الحبيب بحبيبه، وتختلط دموع الفرح بقطرات ماء الوضوء، وزفرات الألم بطول الحرمان من نعمة السجود في بيت الله، والدعاء بين الخطبتين في أعظم يوم تشرق فيه الشمس، يوم الجمعة المبارك، يجلس الناس في هدوء وسكينة، ينصتون لخطبة الإمام، ويتدبرون آيات القرآن العظيم وأحاديث النبي الكريم خير خلق الله، محمد صلى الله عليه وسلم، وتلهج القلوب قبل الألسنة بالدعاء الطويل، وتنهمر الدموع فرحاً باللقاء، وتُشرقُ شمس القلوب مجدّداً وقد تجدّد الإيمان، وخشعت القلوب والأبصار، وطبع الوجوه صمت مهيب، ورحمة وسكينة حَفّت المصلين، فلا تسمع إلا عبارات نابعة من الأعماق: آمين، يا الله..، ولا ترى إلا وجوهاً ترنو في اتجاه القبلة رافعة أكفها بالدعاء، متضرّعة إلى الرحمان أن يغفر الذنوب ويرفع البلاء، ويعجّل بالفرج القريب، ويجبر القلوب المنكسرة، ويرحم الشيوخ الرّكع، والأطفال الرّضع، والبهائم الرّتع، ويُنزّل الغيث، رحمة بالناس أجمعين، فقد طال الشوق وبعُد الطريق وأصاب النفوس النصب والقنوط، ولكن في محراب الصلاة والتوجه إلى خالق البشر، لا نصب ولا قنوط، ولا يأس ولا حزن، ويتذكر الناس أحباباً لهم فقدوهم بسبب الوباء، فكانوا من الشهداء، يتجدّد الدعاء بالرحمة والمغفرة لهم، وتختلط مرة ثانية دموع الشوق ودموع الحنين إلى تلك الوجوه الطيبة التي افتُقِدت، وما عادت تُرى في أماكنها داخل المسجد وفي أركانه وجنباته، غادرت إلى ربها، أو غابت بسبب ما.
لقد كان الحدث الأكثر تأثيراً في نفوس المسلمين وغيرهم من أتباع باقي الديانات الأخرى، هو مشهد إغلاق الفضاءات الدينية، وعلى رأسها المساجد والكنائس والبِيعُ والزوايا والكتاتيب القرآنية، ويبدو أن مشهد الكعبة المشرفة وهي خالية من المصلين؛ كانت الصدمة الكبرى لن تنساها البشرية، فقد كانت لها آثار نفسية عميقة في نفوس كل مَنْ رآها، مسلمين وغير مسلمين، إلى جانب تعليق أداء العمرة، وتعليق الصلاة في المساجد عموما، ومنع صلاة الجماعة، تفاديا للازدحام المفضي إلى انتشار الوباء، وجاء شهر رمضان، وغابت صلاة التراويح التي كان يشهدها الآلاف من المصلين، في ليالي رمضان، ومع استمرار أزمة كورونا، تتزايد مخاوف التأثير في الحياة الدينية والروحية. فهل لهذا الوباء أضرار على الروحانيات، أو أنه وباء أعاد الإنسانية إلى التدين، عبر الدعاء والتضرع والصلاة في البيوت؟
في الظاهر قد يبدو إغلاق دُور العبادة له تأثير سيء على الأمن الروحي، ولكن في العمق هناك فوائد جمّة على الجانب الروحي، ندركها من ثلاث زوايا للنظر: الأولى أنَّ هذا الإغلاق يمثل فرصة للإنسان ليتأمل حاله ويتدبر واقعه مع الله والناس، ويتأمل الكون والحياة ويعيد التفكير في عدد من القضايا الوجودية الكبرى، ويعيد ترتيب أولوياته. ومن زاوية ثانية هذه العزلة التي أُجبِرَ عليها، تبدو في أحد وجوهها شبيهة بمرحلة التحنث والتعبد التي كان يقوم بها بعض الأنبياء والأولياء والصلحاء وحتى العلماء في مرحلة تحصيل العلم من أجل الارتقاء الروحي والصّفاء الذهني، حيث يبتعدون عن الناس ويقّللون من العلاقات واللقاءات، من أجل فسح المجال للقلب كي يتدبر ويستنير. ومن زاوية ثالثة هذه الخلوة والعزلة نوعٌ من الصوم الذي يعني في اللغة: الوقاية، “فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا” (سورة مريم: 26)، حيث إنَّ عدم الكلام مع البشر هو وقايةٌ من كل الأمراض الظاهرة مثل الأوبئة، والأمراض الباطنة مثل الحسد والكبر والغش والبخل.. ولذلك فإن الإجراءات المرتبطة بالإغلاق المؤقت لدور العبادة، والدخول إلى البيت في حجر صحي، لن يشكل أيّ نكسة روحية، بقدر ما سيوفر فرصة للارتقاء الروحي، بتقوية الإيمان وترسيخ العقيدة، حتى يدرك المتدين، أن الإيمان سرّ العبد وربه، وليس مباهاة اجتماعية، وأنَّ خيرَ الدعاء ما كان خفية وتضرعاً، كما قال تعالى: “وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ”، (سورة الأعراف: 205).
هكذا، سيتزايد الطلب على الجانب الروحي في العالم، أكثر من ذي قبل، وستحتاج هذه الفترة المهمة من تاريخ انتشار جائحة كورونا، في مختلف ربوع العالم، إلى تدبير الحياة الروحية والنفسية والثقافية، وفق قواعد سليمة، تنقذ ما يمكن إنقاذه، خاصة مع الحجر الصحي الذي قد يطول أمده، والمجهول الذي يتربّص بالعالم الدوائر، لكنها مع كل ذلك تظل محنة تحمل في طياتها الكثير من المنح والفرص للارتقاء بالإنسان وتحقيق قفزة روحية في سبيل المزيد من القيم الإنسانية.
في عزّ أزمة وباء كورونا، كان إلحاحُ الأنظمة السياسية على حماية اقتصادها من الكساد والركود واضحاً، بضخّ الأموال في صناديق دعم المقاولات والشركات، وتقديم المساعدات المادية للأسر المتضرّرة، وقد كان المعوّل عليه في هذا الشأن هو تبرّع المواطنين الأثرياء، وحتى الطبقات الاجتماعية المتوسطة جادت ببعض ما لديها، كالتبرع بيوم عمل أو أكثر، فاستعاد الجانب الديني الروحي دوره للتأثير في المجتمع، بإحياء قيم التضحية والتطوع والإيثار والرحمة والإحسان إلى الغير، وإذا كان الجانب الديني مرتبطاً بالممارسات التعبدية كالصلاة..، فإنَّ الجانب الروحي هو ثمرة تلك الممارسات وأثرها في الحالة النفسية والعلاقات الاجتماعية، وهذا يعني أن الجانب الروحي والاجتماعي هو غاية الدين، بل أسمى ما فيه، إذ لا فائدة من الركوع والسجود إنْ لم يثمر تواضعاً ورحمة بالناس، ولا فائدة من الصوم إنْ لم يثمر الصدق والصبر والوفاء، ولا فائدة من الحج إن لم يثمر قيم التطوع والتضحية والإيثار، وهكذا وراء كل عبادة أثر نفسي في تحقيق الاطمئنان والتخلّص من تأنيب الضمير، وأيضاً هناك سلوك عملي واجتماعي تعمّ فوائده باقي أفراد المجتمع كالعطاء والجود والمحبة، ودون أن ينتظر صاحبه أي مكافأة من الدولة أو الناس أو تحقيق مكانة اجتماعية، وإنما يُوجِّهُ سلوكه ابتغاء مرضاة ربه، وانتظار الجزاء بعد الموت، ولذلك تُسْهِمُ تقوية الجوانب الروحية إسهاماً فعالاً في احتواء الأزمات وتحقيق الثبات والاستقرار واستمرار الدولة أيضاً، بل وهو ما أظهرته أزمة كورنا في بعض البلاد العربية التي ازدهرت فيها ثقافة التضامن والتبرّع والتطوّع والرحمة.. مما ساعد على حماية وحدة المجتمع واحتواء الأزمة على الأقل تجنباً لما هو كارثي ومدمّر أكثر.