بقلم: د. خالد التوزاني
يأتي هذا المقال بمناسبة الاحتفال بالذكرى الرابعة والعشرين لتربع صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، عرش أسلافه المنعمين، وأستغل هذه المناسبة الوطنية السعيدة، لأبارك لجلالة الملك والأسرة العلوية الشريفة والشعب المغربي قاطبة هذه الذكرى الغالية، ومجدّداً فروض الطاعة والولاء لصاحب الجلالة الملك محمد السادس أدام الله نصره وتأييده، سائلا العليّ القدير أن يعيد عليه هذا العيد بموفور الصحة والهناء، ويقر عين جلالته بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير المحبوب مولاي الحسن وبصاحبة السمو الملكي الأميرة للا خديجة، ويشد أزره بصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وبسائر أفراد الأسرة الملكية الشريفة، وأن يحقق على يديه الكريمتين ما يرجوه لشعبه الأبي من عز ومجد وتمكين. إنه سميع مجيب.
قد يظن الكثيرون، بأن السياق الذي دعا إلى الاحتفال بعيد العرش في المغرب، قد جاءت تنفيذا لظهير شريف أو بلاغ للديوان الملكي يدعو المغاربة لتخليد الذكرى والاحتفال بها، ولكن الواقع أن هذه الدعوة جاءت أول مرة من الشعب المغربي وصدرت بعفوية وتلقائية لتدل على صدق المحبة التي يكنها المغاربة لملوكهم ولتعبر عن الالتحام الذي جمع الشعب بالعرش، فمن المعلوم أن فكرة تنظيم هذه الحفلات كانت بمبادرة من رجال الحركة الوطنية ، الذين دعوا إلى ذلك سنة 1933م، قبل صدور قرار بتنظيم هذا الاحتفال الوطني الشعبي بصفة رسمية في السنة الموالية (1934م). يقول عبد الله كنون في كتابه أحاديث عن الأدب المغربي، أن “عيد العرش كان في الأول مظاهرة وطنية، ثم صار بعد ذلك موسماً أدبياً تنجز فيه أعمال أدبية رائعة؛ فمن مقالات في تاريخ الدولة المغربية وعظمة العرش المغربي إلى خطب في تمجيد الوطنية وجمع المواطنين على خدمة الأهداف المقدسة التي ترمي إليها إلى قصائد في مدح الجالس على العرش والتنويه بمشاريعه الإصلاحية، لا سيما في التعليم والنهوض بالفتاة المغربية وإنعاش الاقتصاد المغربـي “.
وهكذا تراكمت خلال هذه المدة ذخيرة شعرية كبيرة، أصبحت أهميتها الأدبية والفكرية تفرض نفسها على الدارس، كي يتناولها بالبحث العلمي والنقدي الموضوعيين، اللذين يبرزان قيمة هذه الذخيرة في تاريخ الأدب المغربي الحديث، وهذا ما سنحاول القيام به في هذه الإطلالة السريعة والمقتضبة، والتي من شأنها أن تلفت انتباه الباحثين إلى أهمية وضرورة دراسة هذا الشعر .
يمثل الشعر المغربي الذي قيل في المناسبات الوطنية، غرضا شعريا من أغراض الشعر المغربي له خصوصياته وسماته وأعلامه، معظمه مغمور في بطون الدواوين الشعرية وتراجم الشعراء والجرائد والمجلات المغربية، فقد كانت مناسبة عيد العرش وغيرها من المناسبات الوطنية، وراء ديوان حافل بالأشعار الوطنية، وهو ما يفسر كثرة القصائد في هذا المجال، حتى أطلق عليها بعض الباحثين: فن العرشيات ، أو “العرشيات” ، حيث تفنن الشعراء المغاربة في التعبير عن حبهم للملك ووصف أجواء الفرح بالعيد الوطني السعيد.
هكذا، يُعدّ الشعر الوطني مصدرا خصبا من مصادر تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، ومرآةً صادقة لصور الالتحام بين الشعب والعرش، فهذا الغرض الشعري يجسد أصلا من أصول الوطنية المغربية، كما يؤدي وظيفتين: الأولى توثيقية باعتباره وثيقة تاريخية تكشف عن تجليات الوطنية، والوظيفة الثانية أدبية إبداعية تتجلى في كونه مثّل غرضا شعريا له جمالياته ووظائفه وأبعاده.
لقد بلغ اهتمام الشعراء بمناسبة عيد العرش المجيد درجة أن الشاعر إن “لم يقل شعرا طوال العام لا بد أن يقوله بهذه المناسبة.. وهكذا انقلب الشعر إلى شعر وطني واجتماعي يعبر عن عاطفة شعبية، ويمارس تجربته الأدباء أصحاب المبادئ الوطنية. وكان مما يتضمنه هذا الشعر الإشادة بمواقف الملك من النهضة وتشجيع الحركة الوطنية، ووصف ما قطعه المغرب في أيامه من مراحل نحو التقدم والازدهار في جميع الميادين، وبذلك يكون هذا النمط الشعري سجلا من سجلات التاريخ الوطني والنهضة الحديثة، لاسيما وقد كان طابع هذا الشعر الصدق الذي تتفاعل معه العواطف مع الواقع، فيجسد التأثير الذي تحدثه مبادرات الملك وأعماله في نفوس الأفراد والجماعات من مختلف طبقات الشعب بدون أن يكون مغاليا في ذلك ولا مجاملا كما هو المعهود في أمداح الملوك وشعر المناسبات” ويتجلى ذلك في هذا النموذج الذي اخترناه من عرشيات الشاعر “محمد الحلوي” :
هنــاك أقــام المجد شامخ مجــــده وثَمّ تناهى العزّ وانتظم الفخر
هناك على العرش المصون جنابَه تجلّى الهمام الشّهم والملك البَرّ
ســليل الملــوك الفــاتحين تحيــة من الملإ الأعلى يُرتلها الشعر
أبا النصر تمم ما ابتنيت فمـا بقى لفوزك إلا قاب قوسين أو شبر
نحقــق أماني أمة ضاق ذرعــها وأرهقها الحامي وأثقلها الإصر
تريــد حيـاة تحــت تاجــك حــرة وتطلب حقا ليس عن نيله صبر
ستبدل في آمالها كل ما احتــوت يداها فإن عزت فأرواحها مهر
فقدها إلى الشط الأمــين ســفينة تقاذفها في سيرها المد والجزر
هنيئــا لك العــيد الذي أنت عـــيده تحف بك الأشبال والأنجم والزهر
ولا يخفى ما في هذه القصيدة من معاني الفخر والتهنئة بالعيد والتعبير عن قضايا الوطن.
عرفت قصائد العرشيات في عهد الاستقلال قفزة مهمة، فقد اتسع أفق القول عند الشعراء، وأصبحت دواعي التسابق إلى المشاركة في هذه المحافل الأدبية كثيرة خاصة وأن مجالات إلقاء وإسماع هذه القصائد أصبحت متنوعة ومتعددة، إذ لم تعد مقتصرة على التجمعات الشعبية المحدودة التي كانت تقام في أماكن ضيقة، خاضعة للحصول على ترخيص خاص من سلطات الحماية، بل صارت هذه الاحتفالات تقام في كل حي، وصارت التظاهرات الثقافية، المواكبة والموازية لهذه الاحتفالات الشعبية تقام في مختلف الأندية، وفي المؤسسات التعليمية، وصارت وسائل الإعلام المختلفة – من إذاعة وتلفزة وصحف ومجلات- تتنافس وتتسابق في جلب الشعراء وتقديم قصائدهم على قنواتها وأمواجها وصفحاتها.
إن إحياء ذكرى عيد العرش أصبح بعد الاستقلال، مقترنا بخطاب العرش الذي يقدم فيه جلالة الملك حصيلة العمل الحكومي في مجالات التنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية خلال السنة السابقة، ويعطي فيه تعليماته لحكومته حول ما يجب أن تعطيه الأولوية في برامجها التنموية خلال السنة المقبلة، إضافة إلى أن خطاب العرش يخصص عادة حيزا مهما للحديث عن القضايا الوطنية والعربية والإسلامية والدولية التي يضطلع فيها ملك المغرب بدور مهم. وهذه الظروف الجديدة فتحت أمام الشعراء آفاقا رحبة للتعبير عن وطنيتهم الصادقة، وليتسابقوا إلى الإشادة بالخطوات التي يقطعها المغرب في العهد الجديد، عهد الحرية والاستقلال، عهد البناء والتشييد، عهد التخطيط لمغرب يسعى إلى الاندماج في مسيرة التنمية وفي مختلف الواجهات، بالقدر الذي يسعى فيه إلى استكمال تحرير باقي الأجزاء التي بقيت تحت الاستعمار الإسباني سواء في جنوب الوطن أو في شماله.
يقول الشاعر “محمد معمري الزواوي” في قصيدة عرشية اقترن فيها إحياء ذكرى عيد العرش المجيد بحلول عيد الفطر السعيد:
سعدنا بعيد العرش للحسن الثاني وبعده عيد الفطر موسوم غفران
هنيئــا أمــير المؤمنين بفـــاله ال ـمبشر يمنا أن تواصـل عيـــدان
كذلك يفيض اليسر إثر جهودك ال ـعظيمة تزهي كل صقع وميدان
صعدت على عرش الجلال مـوطأ يقينـك في الرحمـن أكمـل إيمان
فتحــت بخير عهـد زهـو ونعمــة بتدعيم أس اليمن أوثـق أركـان
جمعــت بأعـراس السعادة أسـرة ونسـقتها نظمـا قــلادة عقبـــان
وزينت ذاك الحفل في جمع أمــة حواليك يدني لبها خير إحسـان
فأسديت للشعب الوفي براهن اعـ ـتنائك تزهيه عواطف تحنــان
ولما فشــا داء البطالــة أينعــــت عنــايتك الجــلى بأنفــع إعلان
وتستمر القصيدة في تعداد منجزات جلالة الملك في التعليم والفلاحة والاقتصاد، وفي إنشاء المرافق الاجتماعية والصحية والدينية، وإصلاح القضاء وغير ذلك من المنجزات التي تسعى إلى تحقيق النمو والتقدم للمواطنين.
ولم يكن الشاعر “الجزائري مفدي زكريا” يتخلف قط عن المشاركة في تخليد ذكرى عيد العرش المجيد بقصائده الطويلة والبليغة، والتي نستحضر منها هذا النموذج:
لمــن الســواجع ينطقــن هـــديلا؟ والروض، وضاح السمات، بليلا؟
ولم البراعــم يرتعشن، وقد سرى فيهــن مسحــور النســيم عليــلا؟
ولم الحنــاجر بالبشــائر لعلعــت؟ فتصــاعدت نغمـــاتها تهليــــــلا؟
ولم البـــلاد ازينـــت وتبرجــــت؟ وتناهــلت كـــأس الهنا معلـــولا؟
الأجل عيد الشعب…صغت نجومها آذار، فـــوق جبينـــها إكليــــــلا؟
ملك الشباب… وللشباب مطامـــح حققت منها الأرشد المعقولا
سقت الشراع على الخضم بحكمة فمضى شراعك كالشعاع ذلولا
ورفعت شعبك فوق تاجــك عـــزة فغدوت فيه الرافع المحمولا
ومن أشهر قصائد العرشيات، نونية “عشق وجهاد وبشرى” للشاعر محمد بن محمد العلمي، حيث جاءت في 214 بيتا، افتتحها بقوله :
بالمغــرب الأقصــى يهيم جنــاني وأراه في الأعمـــاق يـــراني
حسناته تترى مع (الحسن) الذي بالفكر والخلق العظيم سباني
تأتي القوافي في الثناء مطيعـــة ســــــباقة، فواحــــة الأردان
ولسان حالي ترجمان خــواطري والعشق مفتضح مع الكتمـان
للشمس بالقمر المنير علاقــــــة وثقى وسر النور في الدوران
في عيــد عرشــك يا مليكي إنني شحرورك الصداح في البستان
فالقصيدة أشبه ما تكون بملحمة حافلة بمشاهد البطولة المغربية بقيادة جلالة الملك باني المغرب الحسن الثاني طيب الله ثراه.
إن الشعراء الذين شاركوا في صنع ديوان “العرشيات” يعدون بالمئات، لكن الذي يجب التذكير به أن عيد العرش لم يكن المناسبة الوطنية الوحيدة التي ينتهزها الشعراء للتعبير عن مشاعرهم الجياشة نحو ملك البلاد. بل تعد مختلف المناسبات الدينية والوطنية الأخرى مجالات رحبة للتعبير عن هذه الأحاسيس الفياضة، فهي كلها فرص لا يدعها الشعراء تمر دون تخليدها في قصائدهم الشعرية، مقدمين بهذه المناسبات أصدق التهاني وأجملها إلى صاحب الجلالة، ومبرزين جهوده المتواصلة في تحقيق المزيد من الإنجازات، ولذلك ينبغي الاهتمام بالأدب المغربي لما يحققه من تربية للناشئة على معاني الوطنية، ولما يؤديه من دور في رفع منسوب الحماس الوطني الذي يجعل كل مغربي أينما كان وحيثما وُجد، لا يتردد في التعبير عن فخر انتمائه للمغرب.
أخيراً، إن الاحتفال بالذكرى الرابعة والعشرين لتربع صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، عرش أسلافه المنعمين، يمثل فرصة نستحضر فيها منجزات جلالة الملك محمد السادس في عهده الذهبي، عرف المغرب تطوراً شهد به البعيد قبل القريب بل وحظي بإعجاب الأعداء والخصوم، وخاصة تلك المكتسبات التي بدت واضحة للعيان في مجالات التنمية بكل أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي كان لها وقع طيب على حياة المغاربة داخل الوطن وخارجه.