بقلم: إدوار ثابت
لا تستطيع بمصر ان تعرف المسيحي أو المسلم في الشكل الخارجي إلا من تقلد أو تقلدت من الحلي ، أو أرتدت من الملابس ما يلم عن عقيدته وععقيدتها الدينية . يقام بالإسكندرية في صيف كل عام ، وبفندق المنتزة على شاطئ البحر ، مهرجان الإسكندرية السينمائي ، الذي يستضيف الفنانين والعاملين بالفن السينمائي ، يحضرون ومعهم أفلامهم ، فتعرض بقاعة الفندق ، يشاهدها الجمهور ، ويكتب عنها الصحفيون ، ويتحدث عنها النقاد ، وتقيمها لجنة التحكيم بالمهرجان ، فتعطي الجوائز لمن يستحقها من فروع الإنتاج السينمائي المختلفة . وكان يحرص كل عام على أن يذهب إلى الإسكندرية مع عائلته ، في الفترة التي يقام فيها المهرجان ، لينظم معهم أن يمضوا اثناء الصيف اسبوعاٍ أو عشرة أيام في هذه الفترة ، يسكنون فيها بحي المندرة الذي يقترب من المنتزة ، فيظل في النهار مع العائلة على شاطئ البحر ، ويتناول معهم الغذاء ، يشاركهم بعده التجول للنزهة أو للتسوق ، او يمكثون بالبيت ، يغعلون ما يحتاجون إليه ، و يلهون بما يلهي ، أو يتقيلون ساعة أو ساعتين . وعند المساء يذهب هو إلى فندق المنتزة ، ليشاهد عرضاً من العروض السينمائية ، ويلتقي بأصدقائه وزملائه من الفنانين الذين يعملون بفنون السينما المختلفة ، فيتحدث معهم عما يرونه من أبداع أو قصور في الأفلام المعروضة ، وعن برامج المهرجان ، وما بها من تنظيم راقٍ أو متواضع أو اخفاق بارز أو خفي . وذات مساء يذهب إلى الفندق ، ليحضر عرضاً من عروض المهرجان ، فيجلس بالهو الخارجي ، الذي يطل على شاطئ البحر ن يحتسي شراباً دافئاً يوازن بينه وبين الهواء الرطب الزكي يهب في خفة ، فيحمل معه رائحة البحر الزكية التي يعشقها فيما يعشقه من أشياء ، وإذا فتاة تقبل هي وامرأتان ، الأولى أكبر من الثانية ، فيجلسن أمامه ، وإذا هن يتحدثن في همس وكأنما يرهبن المكان ، أو يلتمسن فيه من يزيل عنهن رهبته ، فتلتفت الفتاة إليه وتساله عن المهرجان ، وعما به من افلام فيحدثها عنه وعنها ، وقبل أن يتم حديثه تستفسره عن العاملين بالفن السينمائي ، وكيف ينفذونه ، فيحدثها عنه وعنها ، فيشعر بها تستزيده ، فيشرح لها شيئاً عاماً من قواعده وأصوله ، فإذا هي تنظر إلى عينيه في استمتاع تحثه فيه على أن يكثر من حكاه ، وتبدي الفتاة اسفها على سكنها بالإسكندرية ، بعيدة عن القاهرة التي تمتلئ وتشتهر بفروع الفنون المختلفة وخاصة الفن السينمائي ، فعرفت منه سكنه بالقاهرة ، فما فصحت له أن سكانها محظوظون ، فهم يقتربون من هذه المجالات الفنية وليست السينما فقط . أما المرأتان فكانتا تنصتان إليه ، وتتركان الفتاة تتحدث عليه ، فإذا تحدثنا فحديثهما في اقتضاب ، لايزيد عن أستفسار أو أستفهام ، وكأنما هما لايرغبان في ان يتركا الفتاة تتحدث بمفردها ، ويفهم منهن أن المرأة الكبيرة هي أمها ، وأن من تصغرها هي أختها ، ويسمع منهما الاسم الذي يتحدثان به إلى الفتاة ، هي رابحة وأختها خديجة . ويحين وقت عرض الفيلم بقاعة العرض ، فيسألهن إن كنَّ سيحضرن العرض فتبدي الفتاة له رغبتها عليه في فرح ، وتستأكده المرأتان فيخبرهن أن العرض عام للجمهور ، فيهم من جلسته ويقفن معه ، فيصحبهن لتسير الفتاة إلى جانبه ، تحاول أن تسرع من خطاها . وكان الجمهور كثيراً ، فتمد ذراعها خلفها ، تحثه على الإسراع ، فتلمس أناملها كفه لمسة عابرة لم يعرف أن كانت قد تعمدتها أم هي منها بلا وعي . وتتقدم الفتاة مع أمها وأختها إلى صف من صفوف القاعة ، فتتلفت حولها وتنظر إليه ، لتبحث له عن مكان إلى جانبها ، فلم ترَ مقعداً فارغاً ، وترنو إليه أمها وأختها ، فيشير إليهن بيدهخ أن يجلسن ، ويشير إلى مقعد شاغر بالصف الخلفي فيجلس خلفها منحرفاً قليلاً عنها . ويبدأ العرض ، فإذا الفتاة كلما رأت مشهداً مثيراً تندهش له ، أو كوميدياً تبتسم له أو تضحك ن تلتفت خلفها إليه ، وكأنما هي تشاركه الدهشة أو الإضحاك ، أو كانما هي تفصح له عن اندماجها واستيعابها ، فيومئ لها برأسه يبادلها ما نشعر به . ويؤكد لها اندماجها واستيعابها مما تراه . وينتهي عرض الفيلم ،فيسير إلى جانبهن ، متجهاً إلى موقف سيارات الفندق ، ليستقل سيارته فيراهن يسرن في نفس الإتجاه ، فيضطر أن يسأل الفتاة وقد سارت إلى جانبه
ما رأيك في الفيلم ؟ أأعجبك؟
لقد أعجبني ، ولكن يهمني أن أعرف رأيك أنت
أراه من الأفلام القيمة ، ولكن به بعض الملحوظات
ليتك تحدثني عنها ، وهذا حديث يطول . أمعك سيارة ؟
نعم
ويبلغون توقف السيارات فتتقدم عنها أمها وأختها ، فتتلفتان إليها وكأنما يحثانها مع الإسراع فتومئ لهما ، ولكنها تنظر إليه وتسأله : بي رغبة في أن نتحدث عما نراه في الفيلم من هذه الملحوظات ، ولكن يبدو أن الوقت لا يتيح لنا ذلك .. أستأتي غداً؟ .
نعم .. عند المساء ، لأشاهد الفيلم الذي سيعرض
إذن سنحضر نحن قبل عرض الفيلم ، لنتحدث قليلاً عن فيلم اليوم ، ثم نشاهد فيلم الغد . وتحييه ، وتحييه معها أمها وأختها ، فيشكرهن ويبادلهن التحية ، ويتواضع لشكرهن فما أن تخطو الفتاة خطوتين حتى تتأنى وتدنو منه فتقول له في شئ من الخجل .
أحب أن أسألك عن شئ
تفضلي
ولكن تلتفت ، فإذا أمها وأختها تنظران إليها ، فتقول في سرعة
إليه في مساء الغد
ويستقل سيارته فيشير إليهن بذراعه ، فيشرن إليه ، وقد قادت أختها سيارتهن ، وجلست هي إلى جانبها ، والأم خلفهما . وعند مساء الغد ، يتجه غلى الفندق سيراً على قدميه ، فالمسافة صغيرة بين المندرة والمنتزة ، فيسير على الطوار الموازي لشاطئ البحر ، وكأنما به رغبة داخلية في أن يتأخر ولا يسرع ، وإذا هو يفكر في تلك الفتاة التي تنتقده ليحدثها عن السينما ، وعن فنها وقواعدها التي لا يفهمها العامة ، ولم يدرك من حديثها ماذا ترغب في أن تعرف عن هذا الفن الذي يرهق العاملين به عندما ينفذونه ، ولم ينجلِ له ماذا تهدف إليه ، فكان يتحدث إليها في شئ من التحفظ ، وكثير من الأحترام . ولكنه يتساءل : أتراها حقاً تنتظره لهذا الأمر ، هذا لا يشك فيه ، وهذا ما بدا في نقاشها الملح معه لتعرف أكثر مما يحدثها عنه ، ولكنه مع هذا التساؤل ، قد لمح في عينيها بالأمس بداية إحساس يلوح عليهما ، تنظر فيه إلى عينيه نظرات خاطفة ، وتتفحص معها قوامه وهيأته في سرعة ، فتستفسره وهي تلتفت حولها ، وتحرك راسها إلى وجهات مختلفة ، وكأنما تخفي أو تتحاشى التركيز في نظراتها . أتراها تهدف إلى أمر ما ، تحاول فيه أن تبحث عمن يمكن أن يرتبط بها ، وتساعدها أمها وأختها على ذلك ، مثلما تفعل كثير من الأمهات والأخوات ، فيعطيانها الفرصة في أن تتعرف على من يروقها ، ولاتمنعانها عنه ، وليس هذا غريباً أو مشيناً ، بل متحضراً ومهذباً تفصح فيه الأم لأبنتها ، والأخت لأختها من رايها فيمن تنتقي ، وفيمن ترغب فيه . وما أن يفكر في ذلك الأمر ، حتى يخفق قلبه ، ويتنفس في عمق ، فالفتاة جميلة متألقة ، راقية ورقيقة ، مهذبة في حديثها ، تبدو عليها فيه ثقافة تحاول أن تسعى لتنهل من معارفها وهذه الخصال هي ما يتمناه هو فيمن يرتبط بها ، ويسعى للبحث عنها .. ولكن هل يمكن ذلك ، هل يمكنه أن يتعرف عليها ن هل يمكنه أن يحدثها في هذا الأمر – وهل يمكنه أن يرتبط بها ؟؟!! ويدنو في سيره من سور الفندق فيتباطأ وكأنما يرغب في أن يتأخر مرة ثانية ، فيشعل لفافة تبغ ، ويظل هذا يتطلع غلى أفق البحر . وقد غمره ظلام الليل ، ينظر فيه إلى تلك المصابيح المتناثرة التي تضعها السفن عليها لتضيئها وتكشف عن أماكنها ، والتي يسعى بها الصيادون إلى صيد الأسماك المختلفة في هذا الوقت من الليل ، ويبيعونها أثنار النهار بأسواقهم . ويتجه إلى الفندق ، فيسير بالبهو الخارجي ، وكان مزدحماً بالناس ، فيلتفت حوله ، وإلى من يجلسون ، فلم يلمح الفتاة ولامن كانتا معها ، وكان يرغب في أن يذهب إلى المركز الصحفي مثلما يفعل في أيام المهرجان ليحصل على ما به من مجلدات وإصدارات ، فيتجه إلى الصالة الداخلية ، فما أن يبلغها حتى يرى الفتاة ترفع نحوه ذراعها ، وقد جلست هي وأمها وأختها على اريكه بركن من أركان الصالة ، فيضطر إلى أن يدنو منهن مبتسماً ، فيحييهن ، ويحيينه ، فيجلس أمامهن ، فتقول له له الفتاة في رقة وشئ من الحنو وكأنما تؤنب
لقد تأخرت
ويعتذر إليها ، فلم تسأله عما أتفقا عليه بالأمس ن وعند حديثهما الذي تركاه لهذا المساء ، وإنما تقول له في لهجتها المهذبة : سيبدأ عرض فيلم الليلة بعد ربع الساعة
ويبتسم إليها في شئ من الدهشة ، فقد أضحت تعرف العروض وأوقاتها ، مما لم تكن تعرفه بالأمس فيقول لها مطئمناً :
سنلحقه ، فلا زال هناك وقت
وينظر إليها وإلى أمها وأختها ، يحاول أن يضمها إلى حديثه فيقول
أستاذنكم لدقائق ، سأذهب فيها إلى المركز الصحفي للمهرجان ، فتومئ له الأم وأختها ، أما إيماءة الفتاة فكانت مختلفة ، لم تخلُ من شئ من اليأس أو الضيق ن وكأنما هي كانت ترغب في ان يظل معها وقتاً أكثر لتتحدث معه قبل عرض الفيلم ، أو كأنما هي قد أحبطت من تصرف الذي سيؤخرها عما تهدف إليه ، ومن اتجاهه إلى المركز الصحفي الذي كان يمكنه أن يتأني له ، أو يتغاضى عنه ، ولكنها تنظر في عينيه ، وتقول له في حنو – لاتتأخر . فيقول في هدوء – ليس أكثر من دقائق . ويتجه إلى المصعد فقد كان المركز الصحفي بطابق علوي من طوابق الفندق . ويظل بطابور الذين يرغبون في أعتلائه . فإذا الفتاة تنتصب من مكانها بالأريكة وتهرع إليه وقد أوشكت أن تلتصق به ، فتسأله مبتسمة في شئ من الخجل ، محته بأندفاعها وذللته بجرأة أضطرت إليها : حتى الآن لم أتشرف باسمك . وتنظر إلى عينيه تنتظره ، فيشفق عليها لو هي تفكر في شئ ما بدا يتأكد عنه ، بل اشفق معها على نفسه ، فإجابته عن سؤالها لن تجدي فيها ما يثور في نفسها ويرنو غلى عينيها في هدؤ ، فيلقي عليها أسمه الذييي ينم عن عقيدته المسيحية ، فإذا هو يلمح على وجهها أحساساً بل مقدار من الأحساسيس المتضاربة والمتشاحنة قلما رآها من قبل على وجه إنسان ، فإذا هي قد أرتعش جفناها رعشات سريعة تغض فيها بصرها تارة وتنظر غليه تارة ثانية وقد أفتعلت ابتسامة بغير أبتسامة ، لاحت فيها على وجهها تلك الأحاسيس التي نمت عن الأحباط واليأس والأسى والسخرية معاً ، فتنظر إلى عينيه مرة ثانية فتومئ له براسها وتقول له في همس لفظة ليست أكثر منها .
شكراً وتستدير فتدنو من أمها وأختها ، فيشعر بمشاعر لا تقل عنها ، بل يزيد عنها الأشتياق والعطف عليها ، وإذا هو وقد أنتظر بطابور المصعد يرنو إليها في لمحة خاطفة فيراها تجلس إلى جانب أمها ، فتهمس إليها بشئ ، ولكنه تدارك ، فتبتسم لها الأم في سخرية لا تخلو من حنو ، فتنحنئ نحوها أختها لتسمع ما أقصحت به لأمها ، فلم تلتفت إليها الفتاة ، بل كانت تنظر امامها إلى لا شئ ، وكأنما تستدرك من لوعة ما حدث منها ومنه ، فتركت لامها أن تجيبها عما تستفسره فما أن تسمع أختها منها حتى تبتسم كما أبتسمت أمها ، وإن كان مثل هذا الشكل من أنفراج الشفاه ليس أبتساماً بمفهومه اللغوي الذي ينم عن الضحك بلا صوت ، وإنما هي حركة يفتعلها الشخص عندما يشعر بإحساس ينأى عن الضحك والبهجة ، ويدنو من الهزل أو الأحباط ، ولهذا رأى أبتسامتيهما مختلفة فربطه بالسخرية وكأنها مزاح . ويتجه إلى المركز الصحفي ، فيأخذ ما يستهويه من المجلدات والإصدارات ، وينزل إلى البهو الداخلي ، فينظر إلى الأريكة التي كن يجلسن عليها ، وإلى مكان الفتاة التي كانت تجلس في طرفها فإذا هي فارغة . ويذهب إلى قاعة العرض ، ليشاهد الفيلم الذي يعرض ن فلم يفهم منه شيئاً إلا مشاهد متتالية كان ينظر إليها في سهو بلا تركيز . ويتجه إلى سكنه بالمندرة ، فيسير على الطوار الموازي لشاطئ البحر ، وقد تملكه الكثير من المشاعر المتضاربة ، أكثرها ذلك الأشفاق والعطف ، لم يغب عنه فيهما وجهها . ولم يرَ الفتاة بعد ذلك المساء طوال الفترة التي أمضاها بالإسكندرية ، بل لم يعرف إن كانت قد شاهدت العرض السينمائي ام لا .