بقلم: المطران ميلاد الجاويش
الكره لا يحتاج إلى موادّ كثيرة كي يُصنَع. طريقة تحضيره سهلة: يحتاج أساسًا وأوّلًا إلى جهل، والجهل يُصَبُّ في قالبٍ من الكبرياء، ويُزاد عليه رشّة صغيرة من الكذب.
الجَهلة الفارغون هم الذين يكرهون. فارِغو القلب والعقل، الفارغون من كلّ شيء. مَن لديه قلب وعقل يحاور، يناقش، يحاول ولا يقنط من المحاولة. يؤمن بأنّ الحبّ سيسري من مكان ما، سيتسرّب من فجوةٍ ما. يؤمن بأنّ الحقيقة يمكن أن تُنال، لأنّها ليست ببعيدة: لا هي فوق الغيم ولا في أعماق الأرض. هي ربّما وراء ستار رقيق، وقليلٌ من التعقّل كافٍ كي نبلغ إليها. الكاره يرفض أن يبذلَ جهدًا، يذهب توًّا صوب الحقد لأنّه الحلّ الأسهل والأسرع. فلسفة الكره تُختَصر بما يلي: إذا جابهك ما لا يُعجبك، لا تضيّع وقتك في تحليل الأسباب ولا في تذليلها، أَزِله بالقوّة: «إصلبه، إصلبه!». العاقلون لا يكرهون سريعًا، لأنّهم يدركون أنّ سبب الكره قد لا يكون خارجًا عنهم. قد يكون فِيهم، مرآةً لما يعتريهم من ضعفٍ وخوف. العاقلون يتمهّلون، يفكّرون، يتأمّلون، يُصلّون، يحاولون قدر المستطاع صدَّ التجارب التي تحاول أن تُقنعهم بأنّ فشلهم إنّما سببُه الآخَر ويجب من ثمّ إزالة هذا الآخَر، تدميره، إزاحته من الدرب. والإزاحة من الدرب تبدأ أوّلًا من القلب: بالكُره.
بلادنا مَلأى بالكارهين، لأنّها ملآى بالجهّال. والحكماء الذين فيها لا يكترث لهم أحد، لا بل يبدون في عيون الأغلبيّة بسطاء حمقى، في حين أنّ الكارهين أنفسَهم هم بالأحرى الحمقى بامتياز. الحكمة تقود الإنسانَ إلى المحبّة، إلى التفكير، إلى التلاقي، إلى كلمةٍ سواء، إلى المصافحة، لأنّ الله أودع الإنسان ميلًا فطريًّا إلى لقاء الآخر: «لا يحسن أن يبقى الإنسان وحده». هذه من أولى كلمات الله قبل أن يخلق الإنسان، علّةُ صُنعِه بالأحرى.
الكره، لكي يصبح شرًّا مستفحِلًا، يُجبَل في قالبٍ من الكبرياء. الكبرياء تصنع من الإنسان وحشًا، توهمه بأنّه قادرٌ على أن يعيش بسلام وحده، من دون أيّ أحد. الكارهون الـمُستَعلون يكرهون الآخرين الغرباء، وعندما يُزيحونهم من الوجود، يتحوّل كُرهُم إلى بعضهم البعض، فَيَتكارهون حتّى يُفنوا بعضهم بعضًا. الكره يحتاج دائمًا إلى ضحايا، إلى قرابين تُقدَّم على مذبحه النجِس. راقبوا الحروب في العالم: كلّها تُصنَع مِن كُرهٍ مجبول بالكبرياء.
ولأنّ الأفكار البغيضة لا يؤيّدها أحد ولا يمشي في رُكبها زبائن، فلا بدّ للكره أن يجد له غطاء جذّابًا يستتر به، ثوبَ حَمَل يتلطّى وراءه الذئب الخاطف الذي هو عليه. طالما قُدِّمت الحروب بأثواب برّاقة: هنا دفاعًا عن النفس، وهناك ذودًا عن عرق أو دين، وهنالك حمايةً للسلم العالميّ… في حين أنّها في الحقيقة خداع بخداع. عند مدخل معتقل أَوشفيتز، أشهر مكان للحقد في العالم، كُتبَ بأحرف واضحة: «العملُ يحرّر». عنوان راقٍ للجحيم الذي خلف الأبواب! بلادنا ملأى بالشعارات الفارغة، بالأكاذيب التي بَرّرت عبر تاريخنا التعيس البغضاء التي بذرها في النفوس من كانت بيدهم السلطة. شعارات رفعوها كي يتباغض الناس، شعارات تتغيّر بتغيّر المصالح، تُرفَع ثمّ تُخفَض عندما ينتهي تاريخ صلاحيّتها. يا لها من مأساة!
فلسفة الكُره فلسفةُ موت. فلسفةٌ مُدمّرة. تُغريك لتوقعك، وعندما توقعك تَعزُلُك لتصبحَ شريدًا وحيدًا، لا تجد بقربك أحدًا يَسقيك كأس ماء. المحبّة أرقى، التلاقي أسمى، التعقّل شيمةُ الأقوياء. فلك الخيار: إمّا أن تكون كارهًا جبانًا وإمّا بَطلًا في المحبّة.