بقلم: محمد منسي قنديل
رأته للمرة الاولى في ليلة شتوية في برلين، كان يلقي اشعارا بالروسية وسط جمع من المهاجرين المتعبين، كانت فيرا مثلهم، مجرد مهاجرة، رغم أنها من اسرة روسية ارستقراطية، لكنها فقدت كل شيء عندما قامت ثورة البلشفيك، وامتلأت طرقات أوربا بالهاربين الروس، كانت في بداية العشرينات من عمرها ومن الطبيعي أن تنجذب للشاعر الشاب الذي بدا منهكا وساحرا، وعندما سارا معا في تلك الليلة عرفت أن اسمه فلادمير ناباكوف وأنه ارستقراطي سابقا مثلها، يجيد الانجليزية والفرنسية لأنه خريج جامعة كمبريدج، ولكنه على استعداد للقيام بأي عمل في حتى يوفر احتياجات أمه، كان الرجل مأساة متحركة، ابوه كان محاميا شهيرا في موسكو، ولكنه كان معارضا لصعود الشيوعيون لسدة الحكم، لذا هاجر واسرته الى المانيا ليصدر جريدة معارضة، ولكن القوات البلشفية الخاصة لاحقته واغتالته في الشارع في وضح النهار، اصبح ناباكوف فجأة مطارادا ودون مورد للرزق، عليه أن يعمل في اي شيء حتى في الصرف الصحي أو عامل زراعي، يسير بجانبها محملا بكل آثار ماضيه، ورغم كل ذلك كان مصرا أن يمسك القلم بيده الخشنة ليكتب القصص ويدبج الشعر، وعندما اصطحبها الى غرفته المتواضعة، ورأت كمية المخطوطات التي كتبها، وبينها ترجمته لاشعار بوشكين الى الانجليزية، ولكن الذي ادهشها أكثر هي مجموعة الفراشات المحنطة التي كان يمتلكها، رغم ظروفه فقد حرص على جمعها من كل مكان عمل فيه، وقام بترتيبها وتصنيفها بدقة كأي عالم حشرات، كل لمسة منه كانت تفتح أمامها عالما جديدا وتجربة مختلفة، سحرها منذ الليلة الاولى وافقت على الزواج منه سريعا رغم أنه لم يقدم لها شيئا يوحي بالاستقرار، بل واضطرت أن تحمل دائما مسدسا في حقيبتها، كانت خائفة أن يعاود الذين اغتالوا أباه الكرة لاغتياله، عاشت معه 50 عاما دون أن يغادرها هاجس الاغتيال وسافرا من اوروبا الى امريكا هربا من هذا الهاجس، كانت ايامهما صعبة مليئة بالشظف، ولكن عشقه للفراشات أنقذه لعدة سنوات، باع مجموعته الثمينه الى متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك، ثم عمل في المتحف نفسه، وخلال ذلك واصل الكتابة والترجمة بالدأب نفسه، وسواء كان معها أو على سفر لم يكف عن ارسال العديد من الرسائل لها، رسائل مليئة بالحب والغرام لم يؤثر فيها ضيق الحياة من حوله، وقد ظلت هذه الرسائل التي يتجاوز عددها 250 محفوظة حتى بعد موت ناباكوف وزوجته لسنوات طويلة قبل ان يقوم ابنهما ديمتري باكتشافها ونشرها مؤخرا في كتاب بعنوان «رسائل الى فيرا»، لقد عوضا بالحب مرحلة الشظف التي طالت والتي لم تنته إلا بعد أن اختارته جامعة كورنيل استاذا محاضرا للأدب الروسي بها، نقلة رائعة، مرتب ثابت وبيت خاص للمرة الاولى، ورغم أنه كتب 17 رواية وعشرات القصص القصيرة إلا أنه لم يلق الاهتمام والشهرة إلا بعد ظهور روايته المثيرة «لوليتا»، تقول فيرا أن المشكلة الحقيقية كانت البحث عن ناشر لهذه الرواية بعد أن رفضتها ستة من دور النشر في امريكا وانجلترا، واضطر لارسالها لفرنسا حيث نشرت هناك وظلت ممنوعة من التداول لمدة ثلاث سنوات، ولكن فور الافراج عنها استأثرت بألباب القراء، وصنع منها فيلمين بصورة مباشرة ومسرحية واستعراض غنائي، كانت تحفة ادبية كما تراها فيرا، ولكن من يملك الجرؤة على نشر رواية عن غرام رجل عجوز بفتاة في الثانية عشر من عمرها، حالة شاذة من «البيدافويبا»، اي الافتتان بالاطفال، وقد صنفت على أنها رواية جنسية، وسادت فكرة خاطئة أنها تدور حولاغواء القاصرات للكهول من الرجال، وهو ما يخالف قصد ناباكوف في الرواية، فلوليتا ليست مغوية ولكنها ضحية للهياج الذكوري، ومالم يعرفه الكثيرون أن لوليتا تعتمد على واقعة حقيقية تداولتها الصحف الامريكية، ولوليتا الحقيقية ظلت على قيد الحياة ولم تمت إلا منذ سنوات قلائل، كانت في الثانية عشر من عمرها مثل لوليتا عندما اكتشف زوج امها الشرطي السابق، أنها تختلس قسائم المعاش التي يرسلها الضمان الاجتماعي لأمها، ونجح في ايهامها أن هذه جريمة خطيرة ستودي بها الى السجن وسيتم القبض عليها حتما ، وكان الحل الذي طرحه عليها هو أن تهرب معه بعيدا عن البيت لتنجو بنفسها، وهكذا بدءا معا رحلة طويلة للهرب الى اكثر من ولاية، وخلالها كان يستغلها جنسيا، ولم تجد بدا من الاستجابة له، وتواصلت رحلة الانتهاك على مدى ثلاثة اعوام، واستطاعت الطفلة أخيرا الهرب بعد أن اصيب الشرطي في مشاجرة بأحدى الحانات، لقد بدأت الرحلة وهي طفلة ساذجة وخرجت منها امرأة ناضجة تم استغلالها بقسوة، هذه هي الواقعة التي استخدم نابكوف اطارها الخارجي لراويته، وغير شخصية الشرطي الى معلم لغة محبط ومصاب بمرض مضاجعة الصغار، ولكنه ارتفع بالاسلوب الأدبي الى مستوى الادباء الكبار من أمثال جوجول وديستوفسكي وكل المتهكمين الكبار في تاريخ الرواية، انتزع لوليتا من خانة الروايات الجنسية لتحتل مكانها بين افضل مائة رواية في تاريخ الادب العالمي.