بقلم: محمد منسي قنديل
المشكلة التي تواجه لاعبنا الكبير محمد صلاح ليست بسيطة، وإذا تفاقمت يمكن أن تحرمه وتحرمنا منه في كأس العالم، احتمال مرعب، ولكن لجنة الكشف عن المنشطات التابعة للفيفا لا تعرف المزاح، وسلطتها مطلقة في إيقاف اللاعب الذي تشك في نتائج تحليلاته ومن الصعب اقناعها بالعكس، ونحن لا نشك في نزاهة صلاح، وندرك جيدا أنه لاعب مستقيم ومتدين ولكن الظروف والمصادفات هي التي قادته لهذا الموقف، لقد ذهبت اللجنة دون موعد مسبق إلى معسكر الفريق المصري في سويسرا، واخذت عينات من بعض اللاعبين، ولكن صلاح لم يكن موجودا، كان مرتبطا بإحدى المباريات مع ناديه ولم يحضر سوى في اليوم التالي، هذا ماقيل مبررا لغيابه، وقيل أيضا أن اللجنة لم ترسل لهم أي خطاب يفيد حضورهم، وهو عذر بائخ وسخيف، فحضور اللجنة يكون دائما مفاجئا ودون انذار مسبق، واذا لم يكن اللاعب موجودا لثلاث مرات يتم إيقافه فورا، وقد حدث هذا مع بطلنا الأولمبي كرم جابر، مازال أمام صلاح فرصتين، وعلى أداري الفريق ابلاغ اللجنة عن مواعيد معسكره بشدة ونحن نثق أن جسده خال من المنشطات أو كل ما يثير الشبهات، لأن هذا العام هو اخطر الأعوام في تاريخ كرة القدم، ولا يمكن التهاون مع أي أحد، وترينا تجربة بيرو مع الفيفا إلى أين يمكن أن يصل الأمر.
تأهلت بيرو لكأس العالم هذا العام للمرة الأولى منذ عام 1982 وسيذهب فريقها الوطني إلى روسيا بقيادة مهاجمه الأول باولو جيرورو، هذا المهاجم الذي كان محظوظا في مباريات التأهل عندما ارسل ضربة حرة إلى مرمي كولومبيا لتستقر في الشبكة ولتمنح فريقه التأهل، ولكن الحظ غادره تماما في نهاية العام، ففي ديسمبر الماضي أعلنت الفيفا أن اللاعب قد أنتهك التعليمات الخاصة بالابتعاد عن المخدرات، وأن الاختبارات التي اجريت على عينة مأخوذة منه فد اثبتت وجود مادة بنزويلوكجنين benzoylecgonine ، وهي المادة التي تبقى آثارها في الجسم بعد تعاطي الكوكايين، وقد منعت الفيفا جيرورو من اللعب لمدة عام كامل أي أنه سيفقد اللعب في كأس العالم.
جيرورو أو المحارب كما يعني اسمه بالإسبانية حاول أن يقاوم المنع، قال أنه فقط تناول الشاي المختلط بأوراق نبات الكوكا، وهو مشروب شائع في البيرو رغم أن جيرورو يعيش في ريو دي جنيرو حيث يلعب لنادي فلامينكو، وقد مهد هذا الادعاء الطريق للمحامي الذي يدافع عنه ليتبنى خطة مثيرة للاهتمام، وليقدم للفيفا اغرب واقدم شخصيات يمكن تقديمها للشهادة: أطفال لوليالاكو، وهي ثلاث مومياوات ، أخذت اسمها من جبل البركان الجليدي الذي يرتفع أكثر من 200 الف قدم في الارجنتين، حيث تم دفن هذه المومياوات ابان حضارة «الانكا» منذ أكثر من خمسمائة عام.
خطة المحامي هي اختيار خلاق ولكنه ساخر وقاس، فهذه المومياوات كانت جزءا من طقس كاباكوشا، حيث كان أهالي «الانكا» يقدمون بعضا من أولادهم خاصة البنات هبة للإمبراطور ليستخدمهن في هذا الطقس، ويتم الاحتفاظ بهن في معسكر للتجميع، ثم يتم اصطحابهن إلى أحدى قمم جبال الإنديز بمناسبة صعود أو موت الامبراطور، أو حدوث أي كارثة طبيعية، وبعد ارغامهن على صعود قمة الجبل العالية يتم تركهن هناك حتى التجمد والموت او يتم قتلهن قربانا لآلهة الانكا التي لا تقنع إلا باللحم البشري الغض، يمتن من أجل أن يحيا الامبراطور أو ترفع الطبيعة غضبها، وتتراوح أعمارهن من السادسة إلى الخامسة عشر، وقد استمر هذا الطقس سائدا حتى عام 1500 عندما جاء الغزاة الاسبان.
ولم يتم اكتشاف هذه المومياوات إلا في عام 1999 عندما قام فريق من منقبي الآثار مكون من الارجنتين وبيرو وامريكا بالتنقيب عند قمة هذا الجبل، وتم العثور على أجسادهن الصغيرة محفوظة بصورة جيدة، ربما كانت افضل أجساد قديمة تم العثور عليها، عذراء منهن كانت تبدو وكأنها مستغرقة في نوم طويل، ولكن اخراج الجثث ونقلها للمتحف من أجل اجراء الدراسة عليها أثار الكثير من الاعتراضات خاصة من جانب السكان الأصليين، وقد صرح أحد زعمائهم أن هذا انتهاك صارخ لكل الأحباء القدامى، ولكن الاكتشاف ساهم أيضا في ابراز جانبا إيجابيا للغزو الاسباني، فقد انهى طقس الكاباكوشا ومنع التضحية بالبشر، ولكنه قتل بشرا يفوقهن عددا.
كيف استفاد محامي جيرورو من هذا الأمر؟، لقد وضع يده على دراسة مهمة توضح ماذا كان هؤلاء الأطفال يأكلون أو يشربون اثناء اعدادهن لهذا الطقس، فبواسطة استخدام المسح الضوئي وتحليل النظائر المشعة لبقايا الكربون والنيتروجين في شعر الجثث، استطاع العلماء استعادة اللحظات الأخيرة من حياتهن بطريقة تثير الأسى والتعاطف، اثبتت الدراسة التي صدرت في عام 2013 أن طعام الضحايا قد تغير في العام الأخير قبل موتهم، فبعد أن كان يتركز على البطاطس تحول إلى طعام دسم مليء بالبروتين الحيواني والخضروات والذرة، وأضيف إليه «الكيكا» وهو مشروب كحولي متخمر من الذرة، وبتحليل شعر الفتاة العذراء ثبت انها شربت كميات كثيرة من الكيكا في الأسبوع الأخير قبل موتها، وكان الهدف هو تهدئتها هي وبقية المرافقات قبل تحويلهن إلى مخلوقات متجمدة على قمة الجبل، وأهم عناصر هذه الوجبة والتي وجدت في جسمها بكمية كبيرة كانت مادة بنزويلوكجنين benzoylecgonine التي اكتشفت في جسد جيرورو.
من المؤكد أن هذه العذراء المسكينة لم تكن تشم الكوكاكين، فقد بدأ عزله كمادة مخدرة في منتصف القرن التاسع عشر، ولكن النتائج اظهرت أن حياتها داخل طقس الكباكوشا أتاحت لها الفرصة لتناول كميات كبيرة من نبات الاندين الذي يستخرج منه الكوكايين نفسه، ومضغ الاوراق فقط يمد الجسم بمادة منشطة متوسطة التأثير، تزيل الشعور بالتعب والجوع والعطش، وتخفف من درجة الألم واعراض الصعود فوق المرتفعات، كانت «الكوكا» تحتل مكانا مميزا في حضارة الانكا، وتستخدم في الطقوس الخاصة، وقد وجد العلماء بقايا من هذه الاوراق بين اسنان الفتاة العذراء.
وسواء كان جيرورو قد شربها او شمها فهذا سر لا يعلمه إلا هو وطبيبه الخاص، ولكن المحامي قدم للفيفا وثائق تؤكد أن هذه المادة يمكن أن تستمر موجودة في الجسم لقرون، وبقول آخر فإن جيرورو لم يفعل أكثر من أنه تناول مادة كانت مباحة منذ آلاف السنين قبل ان تحرمها القوانين المعاصرة، وبالتالي تحرم فريق بيرو من افضل لاعبيه، كانت حجة المحامي جريئة ومن الصعب أن تتكرر، وقد لعب جيدا مع حقائق العلم، ولكن الفيفا لم تكن تستطيع إلا أن يستجيب للأدلة التي قدمها، لقد تم تخفيف قرار المنع من عام كامل إلى ستة شهور وبذلك يستطيع جيرورو أن يشترك في كأس العالم، لقد لعب المحامي بأوراقه كاملة واستدعى أرواح العذارى البريئات حتى يبرئ ساحة موكله، لقد دافعوا عن متهم ليسوا متأكدين من براءته بينما لم يجدن من يدافع عنهن، فقد متن ضحايا لطقوس جائرة لم تكن تطلب ضحاياها إلا من دماء البشر.
بالطبع لن يصل الامر مع محمد صلاح إلى هذا الحد، ونتمنى أن يتخلى المشرفون على إدارة شئون المنتخب عن الإهمال المصري المعتاد ونجتاز جميعا هذه الأزمة.