بقلم: بشــير القــزّي
ما أن حطّيت رحالي في مدينة مونتريال برفقة زوجتي وابنتي حتى بدأت استطلع من حولي للتعرّف على الأناس الذين يتحدّرون من نفس أصولي وقد سبقوني إلى هذه البقعة من العالم، والتي قد أكون قرأتُ عنها في كتب الجغرافيا ، إلّا أنها لم تترك أي أثرٍ يُقتدى به في ذاكرتي!
بعد أن تصادقتُ مع شابٍ من عائلة قرطباوي كان يقطن وقتئذٍ مع عائلته مدينة “تيربون” الواقعة شمال مونتريال ، تعرّفت بالأستاذ الملحّن إميل ديب، والمعروف بالأنغام الجميلة التي ألّفها لأغانٍ كثيرة ومتعددة تمّ بثّها على الإذاعة اللبنانية طوال ثلاثة عقود قبل ذلك. كان أيضًا قد اتخذ مع زوجته دعد من تيربون مكانَ إقامة لهما ولولديهما بعد ان اشتريا على شارع ماكنزي منزلاً من طابق واحد (بانغلو). كانت حماة الأستاذ إميل، جورجيت، تسكن في مونتريال مع أولادها، وقد التقيتها في زيارة للأستاذ إميل.
ما ان دخلت المنزل وصعدت بضع درجات حتى رأيت آلة بيانو بنيّة اللون تتوسّط الحائط الذي يفصل الصالون عن المطبخ، وتعلو حامل النوتات أوراق موسيقية مكتوبة باليد. أمّا في أقصى القاعة من الناحية اليمنى فكانت آلتا عود ومندولين تديران وجههما نحو الزاوية وكأنّ كلّ واحدة منهما تنتظر دورها لأداء الوصلة الخاصة بها!
بعد أن عرّفت بنفسي فوجئت بأن السيدة دعد ووالدتها تنحدّران من نفس بلدتي، الرميلة، والجميع يعرف عائلتي!
أخذ الأستاذ إميل آلة العود وركّزها في حضنه، ثم أخذ يلعب بعض التقسيمات عليها، حيث سمعتُ عذابة في الصوت قلّما نجدها بالآلات المشابهة!
ثمّ توقف عن العزف وأدار وجه العود نحوي وقرّبه منّي وسألني: “هل تعلم أن هذا العود كان لعمِّكَ شاهين؟” ثمّ أشار بسبابته إلى فوهة قمريّة الآلة، وإذ بي أرى عبر الأوتار لاصقاً داخله يذكر اسم مصنّعه وسنة الصناعة: ١٩٠٤، وهي السنة التي كان عمّي يروي أنه وُلد فيها! ثمّ استطرد قائلًا ان عمي شاهين كان قد أهدى هذه الآلة إلى ماري، الأخت الكبرى لحماته جورجيت، وهي بدورها أهدته إيّاها!
حاولت بعدئذٍ أن أستقصي خيوط القصة لمعرفة تفاصيلها!
في مطلع القرن العشرين، حصل عمُّ والدي، الياس، على لقب “أفندي” من الباب العالي. شيّد لنفسه سنة ١٩٠٣ منزلًا كبيراً من الصخر الصلب، سطحه من القرميد الأحمر على طراز الأبنية التي كانت تبنى في ذاك الزمن. له شرفة تطل على الغرب، حيث تغيب الشمس في الأفق كل يوم، وحيث تمرّ طريق صيدا القديمة بالقرب من شاطئ صخري تلطم أمواج بحره صخرتين كبيرتين تأبيان الذوبان تحت وطأة الارتطام! كنت كلما زرت ذاك المنزل ودخلت الصالون الكبير ذا السقف العالي المزخرف، والحيطان الملأى بالصور القديمة ومن بينها صورة كبيرة للأفندي، وهو يلبس زيّه الرسمي، وتعتلي رأسه قبعة مميّزة تتوّج وجهاً يبرز في وسطه شاربان مستقيمان، كنت أشعر بهيبة فريدة تجعلني استذكر شخصيات هامة زارته على مدى عقود!
كان المنزل فريداً في شموخه، يتميّز عن بيوت في المنطقة أقل ارتفاعاً، بعيدة عنه. كانت المنطقة تحمل اسم “وادي الزانية” حيث يوجد “خان” مرفق بإسطبل لاستراحة المسافرين مع دوابهم.
تمّ تعيين الياس الأفندي لجباية الضرائب لصالح السلطنة العثمانية. وإذ كانت تَرِدُه الأموال من مناطق الإقليم، تميّز بكرمٍ كبير، ولم يتوانَ عن استضافة او إطعام كل من يقصد بابه. يُذكر أنه إذا أقام مأدبة ما، لا يجلس مع ضيوفه بل يُفضّل ان يقوم بخدمتهم بنفسه!
وإذ إن مصروف الضيافة كان كبيراً جداً، وإذ لم يكن الأفندي يفرّق بين صندوقه الخاص وصندوق الجباية، كان يكتشف عندما يحين وقت التسديد انه لا توجد في حوزته الأموال الكافية! لذا كان أعوانه يطرحون الصوت على القرى طالبين المساعدة. ونظراً للمحبة والتقدير اللذين كان أهل المنطقة يكنّانهما له، كان جمع الأموال اللازمة سهلاً، وهكذا يتم الدفع دون عقبات.
إلّا أنه بعد سقوط الدولة العثمانية ودخول الانتداب الفرنسي لم يعد الأفندي يجبي الأموال للسلطنة، مع انه حافظ على الكرم الذي عرفت به داره طوال السنين التي سبقت، لذا ارتفعت الديون وضاقت أمامه الأمور بعد ان باع من الأراضي ما أمكن تصريفه!
هبّ لنجدته أخوه يوسف، جدي، وكان يملك بيتاً كبيراً مع بستان واسع ورثهما عن والده شاهين. وقد أبصرَ أولاده النور بين جدران تلك الدار.
قام جدي يوسف ببيع البيت والبستان ليوسف لطفي المتأصّل من بلدة البرجين وقد سكنه الأخير مع عائلته، بينما انتقل جدي للعيش في منزل أصغر وبستان متواضع يقعان من الناحية الثانية من طريق صيدا القديمة، وهكذا تم تسديد ديون الأفندي.
على العكس من جدي يوسف وأخيه، كان يوسف لطفي حريصاً على قرشه، فكان الداخل الى جيبه مفقوداً والخارج منها مولوداً. كان لديه من الأولاد أربعة شبّان وابنتان.
بحكم الجيرة، وإذ كان عمي شاهين في مطلع شبابه، أُعجبَ بماري، الابنة الكبرى ليوسف. كانت فتاة جميلة الشكل، أنيقة المظهر، فطينة الفكر، لبقة الحديث. كانت بنظراتها تدل على أنها تبادله المشاعر. وإذ أيامئذٍ لم يكن من المسموح ان يتردد على زيارتها بدون صفة رسمية، طلب من والده أن يطلب له يدها! وهكذا كان وأصبحت ماري خطيبة شاهين!
مع الأيام ازدادت العلاقة شدة بين الخطيبين. ما كان عمّي ينهي عمله حتى يهرع الى بيت ماري للجلوس بجانبها ومسايرتها. اشترى آلة عود ووضعها بعهدتها. كان في المساء يجلس بقربها ويمسك بالعود ويعزف عليه موسيقى أغنيات عرفت في عشرينات القرن الماضي: من أبو الزلف والميجانا والاندلوسيات والقدود الحلبية. مع الألحان كانا يغنّيان ويرنّمان ويدندنان تلك الأغاني. في ذاك الوقت لم تكن قد وصلت المياه الجارية الى الرميلة ولا الكهرباء. كانا يجلسان تحت العريشة تحت ضوء القمر بين بساتين الليمون الذي ما ان يُزهر حتى تفوح منه رائحة تمجّد الخالق وتدخل الى صميم القلب! ما زلت عندما أزور الرميلة واشتمّ ذاك العطر السماوي تنهمر دموع من عينيّ!
مضت السنون و”لغايةٍ في نفس يعقوب” كان والد ماري يجد الأعذار لتأخير موعد زفاف ابنته. بعد ثمان سنوات على خطبة عمي شاهين قام عمي ناجي بخطبة جورجيت، أخت ماري (والتي أصبحت فيما بعد حماة الأستاذ إميل).
مرّ زمن طويل فيما بعد دون ان يتمكن الأخوان من الزواج من خطيبتيهما وذلك بسبب مماطلة والد الفتاتين، وقد يكون السبب مردّه الى عدم رغبته في الاشتراك بتكاليف الزواج! عندئذٍ، وبعد انقضاء ثلاث عشرة سنة على خطبة عمّي شاهين ، قرّر الأخوان ترك الأختين، وذلك أدّى الى عداء وجفاء بين العائلتين!
مرّ الزمن وتزوّج عمّاي كما تزوجت الأختان ورزق الجميع بالذريّة! شخصان بقيا على علاقة طيبة بين العائلتين: والدي والأخ الأصغر لماري واسمه ألبير.
بعد قرابة نصف قرن على انتهاء العلاقة بين عمّي وماري، قام بإصدار كتاب من دار النهار للنشر يحمل اسم “من ذكرياتي” أورد فيه قصة تتحدث عن ماري، وقد سمّاها بالأحرف الأولى من اسمها.
في بداية التسعينات من القرن الماضي حضرت ماري الى مونتريال لزيارة أخوتها الذين كانوا يقيمون فيها. أخبروها بوجودي هنا مع عائلتي. اتصلتْ بي وقمت بزيارتها عدة مرات. سألتني عن جميع أفراد العائلة وسألتني أيضًا عن عمي شاهين. وقتئذٍ كان قد قارب التسعين من العمر. ما أذكر عنها أنها كانت تجيد اللعب بطاولة الزهر وكانت تتشاجر مع اخيها بانفعال كلّما شعرت بأنه يغش باللعب!
توفّي عمي سنة ١٩٩٥ وكان خلال حياته قد تبوّأ مناصب عالية في الشرطة في لبنان.
أعادت الزيارة لمونتريال وكانت تتصل بي كلما جاءت وكنت أقوم بزيارتها. وافتها المنيّة منذ قرابة ثلاث سنوات عن عمر يناهز ١٠٨.
أمّا العود فقد أهداه الأستاذ إميل الى ابنه الياس، اللامع أيضاً في فنون الموسيقى، وهو يسكن حالياً في بلدة سان إيبوليت في شمال مونتريال!
وسؤالي هو: هل سيشهد العود الذي عمّر قرناً ونيّف قصة أخرى؟