بقلم : نعمة الله رياض
كنت أتساءل هل هذا الإجراء ما زال مطبقاً عندنا في مصر ؟ أعني التأشيرة المخيفة للنيابة: ( يفرج عن المتهم ، ما لم يكن علي ذمة قضايا أخري) .. وهنا تبدأ معاناة المتهم ، لمن يفترض أنه أصبح بريئا» ، والتي هي أقسي من السجن نفسه ، فيتسلمه مندوب من الشرطة ويسافر معه إلى مديريات الأمن المختلفة وأقسام الشرطة في المحافظات للحصول على ورقة مضمونها أنه ليس مطلوباً على ذمة قضايا أخرى. كانا يستقلان في تنقلاتهما القطارات والسيارات والعربات التي يجرها الخيل أو الحمير وحتي المعديات التي تعبر الأنهار والترع ، ويقضيان الليل في سجون مديريات الأمن وكانت مشاويرهما لا تقل عن أسبوعين .. الآن علمت أن كلمة «كعب داير إختفت تماما»، فيستطيع ضابط الشرطة الكشف عن المتهمين أو المشتبه فيهم بإدخال إسمه على الكمبيوتر وفى شبكة وزارة الداخلية الرابطة بين جميع مديريات الأمن.. ولكن يبقي تصنيف هذه الكلمة بمعني العقوبات والمعاناة في حد ذاتها، رغم أنها إجراء روتيني ..
هذا يشبه لحد ما ، ما مررت به أنا وزوجتي للبحث عن أفضل حل لمشكلتنا التي بدت عويصة !! .. لنعد بالزمن عامين تقريبا إلي الوراء ، عندما نما إعجاب متبادل بيني وبين زميلة لي في العمل ، تطور إلي صداقة عميقة جعلتنا لا نفترق عن بعضنا بعد انتهاء مواعيد العمل ، نقضي بضعة ساعات نتسكع فيها في المحلات والمقاهي والمطاعم قبل أن يعود كل منا إلي منزله، وحتي بعد عودتنا نواصل التحدث التليفوني حتي ساعة متأخرة من الليل ، لنلتقي مرة أخري في العمل صباح اليوم التالي ، كان من الواضح أن هذه الصداقة الحميمة ستنتهي بالزواج الذي في الحقيقة يخطط له كل طرف ، فقد استراح كل منا للآخر ، وأدرك كل منا طباع الآخر وما يحبه وما لا يحبه ، والواقع اننا كنا نخشي أن يفوتنا قطار الزواج، فقد تعدت هي الثلاثين من عمرها وكنت أنا اكبرها بسبع سنوات .. وهكذا تزوجنا بعد فترة خطبة قصيره، أعددنا فيها عش الزوجية وأمضينا بضعة أيام في فندق علي شاطئ البحر فيما يسمي بشهر العسل ، عدنا بعدها إلي دوامة العمل.
مضت الأيام والشهور وحلم زوجتي ، ككل زوجة ، أن يرزقها الله بطفل يملأ علينا حياتنا ويجعل لها طعما» ومعني..كانت محاولتنا دؤوبة ، ورغم قيامي بواجباتي كزوج بانتظام وعلي أكمل وجه ، لم يحدث حمل ، بدأ القلق يساورنا ، وقررنا اللجوء للطب لمعرفة الأسباب وعلاجها.. وهكذا بدأت مشاوير الكعب الداير إلي عيادات الأطباء ومعامل التحاليل ومراكز الأشعة ، كنا نذهب لطبيب فيحيلنا بعد الكشف لطبيب آخر أكثر تخصصا» والذي يوصي بدوره بمزيد من التحاليل والأشعات المطلوبة .. أخيرا» قال لنا الطبيب الإستشاري الذي تجمعت أمامه جميع الفحوصات:
- بخصوصك كزوجة ، أنتي في صحة جيدة ولا توجد موانع للحمل الطبيعي ، أما بخصوصك كزوج ، فللأسف أظهر الفحص الطبي الشامل والفحص المختبري للسائل المنوي أن عدد الخلايا المنوية في المليمتر الواحد أقل بكثير من الحد الأدني اللازم للإخصاب ، بالإضافة لضعف حركتها ، وانت ضمن عدد قليل من الأشخاص الذين تفرز أجسامهم خلايا مضادة للخلايا المنوية، مما يؤدي إلي إستحالة قدرتك علي الإنجاب.
وقع تصريح الطبيب علينا كالصاعقة ، واستمرت الصدمة والوجوم علي وجوهنا حتي بعد وصولنا للمنزل ، أسرعت زوجتي لمخدعها حيث انفجرت في بكاء مر ومتواصل إلي أن انهكها البكاء ، فلجأت إلي نوم عميق .. كنت جالساً بجوار فراشها أنظر إليها وهي مغمضة العينين .. ما هو ذنبها حتي ترتبط بإنسان غير قادر علي الإنجاب ؟ وتحرم من وظيفتها الأساسية في الحياة ، وما الغرض الأسمي من الزواج غير تكوين أسرة ترعاها وتربي في إطارها الأطفال ؟ إن الأمومة غريزة متأصلة وقوية للغاية في الأنثي سواء أكانت في البشر أو في المخلوقات الأخري ، وهي ضرورية لحفظ النوع وامتداد النسل ..
فتحت زوجتي عينيها ، لتجدني جالسا بجوار الفراش أنظر اليها والدموع تغالب مقلتاي ، قلت لها :- يعلم الله كم احبك ويصعب علي ما سأقوله لكي الأن ، أنا لن أظلمك وأجبرك علي العيش معي ، سأشجعك علي رفع دعوي طلاق للضرر ، وسنقدم الشهادات الطبيه الداله علي استحالة قدرتي علي الإنجاب ..
تجهم وجهها ونظرت لي بحدة وقالت : – هل جننت لأفعل ذلك ؟! إننا تزوجنا عن حب وإخلاص متبادل ومصيرنا واحد ومشترك، صحيح انني أتوق بشدة للأطفال، ورغم أن الحياة بدونهم تتيح لنا أن نتمتع بالنزهات والسفريات للخارج والمشتريات وبدون قيود، ولكن إحساسي بمسؤلية رعاية وتربية طفل ِ، شئ آخر تماما» ، إن الحياة في وجود أطفال في المنزل شئ مبهج ويشيع الدفئ في جوانبه .. فلنفكر معا في طريقة نحصل فيها علي طفل يضيئ حياتنا.. قلت لها: – هناك طريقة غير قانونية لشراء طفل حديث الولادة ، وأعرف أزواجا» حصلوا علي أطفال بهذه الطريقه ويعيشون معهم في سعادة .. قالت :- كيف ذلك ، قلت :- الحقيقة إنها تعبير مخفف ، فهي طريقه إجرامية تتم بخطف وتهريب طفل حديث الولادة ، تقوم بها ممرضة في مستشفي للولادة ، وتتقاضي ما يوازي عشرين الي ثلاثين ضعفا» قدر مرتبها الشهري مقابل خطف طفل من سرير أمه أثناء نومها ، ويتجه الزوج في اليوم التالي إلى أي مستشفى لإثبات ولادته، ويقول حينئذ أن الأم ولدته في المنزل، وأنه يريد توثيق ولادته ويحصل بذلك على شهادة ميلاد للطفل مدون بها إسمه وإسم زوجته. قالت لي وهي منزعجة :- وهل يرضي ضميرك أن يهنأ بالنا علي حساب أم مسكينة تعبت تسعة أشهر في الحمل وكانت تنتظر وليدها بفارغ صبر لظروف لا نعرفها ؟ إياك أن تفكر بهذه الطريقة مرة أخري فهذا ذنب عظيم ، ولن يبارك الله حياتنا .. قلت لها:- صدقتي ، إذا» فلندرس إمكانية التبني ونرجو أن يحالفنا الحظ بالوصول لهدفنا المنشود. وهكذا إستأنفنا مشاوير الكعب الداير ..
قمنا بزيارة عدد من الملاجئ في القاهرة وبعض المحافظات القريبة لإختيار الطفل الذي يوافق متطلباتنا ، كنا نبحث عن طفل ذكر عمره لا يزيد عن أربع سنوات لون بشرته تناسب لون بشرتنا وبصحة جيدة .. بعد خمسة مشاوير مضنية لزيارة الملاجئ، استقر رأينا علي الطفل المطلوب .. ذهبنا إلي قسم الأمومة والطفولة بمديرية التضامن الإجتماعي وحصلنا علي بيان بالمستندات المطلوبة وتتضمن : قيد عائلي ، فيش وتشبيه ، قسيمة الزواج ، الدخل الشهري ، تحليل فيروس سي ومخدرات ، كشف نفسي وعقد ايجار أو تمليك للشقة .. أما الشروط فكانت : أن يكون للطفل والأسرة نفس الديانة، والزوجان احدهما مصري وعمرهما بين 25 إلي60 سنة ومضي علي زواجهما 3 سنوات علي الاقل وتعهد الاسرة الحفاظ علي نسب الطفل .. لم يكن هناك مشكلة في الحصول علي المستندات المطلوبة ، ولكننا فوجئنا بأن الشروط تتضمن التعهد بالحفاظ علي نسب الطفل ، سألنا الموظف المختص : – كيف نتبني طفلا ولا نعطية إسمنا ونسبنا ؟ أجاب : ومن قال إن هذه الشروط للتبني !! إن التبني محظور في مصر علي المصرين والاجانب،طبقا» لقانون الطفل رقم 12 لعام 1996، وهذه الشروط وضعت لكفالة الطفل طبقا للشريعة الإسلامية وهي المصدر الرئيسى للتشريع ، وطبقا للمادة الثانية من الدستور وهذا يعني أن العائلة المتكفلة بالطفل هي عائلة مضيفة ومؤقتة، وليس له أى حقوق قانونيه حيالها .. أغلقنا ملف التبني وإستأنفنا مشاوير الكعب الداير ، لنبحث عن طريقة أخري ..
توجهنا لمستشفي يستخدم تقنية أطفال الأنابيب، وطلبنا من الطبيب المختص شرحا» لهذه التقنية فقال :- عملية طفل الأنبوب هي عمليةَ إخصاب تحدث خارجَ رحم المرأة، حيث يتم تنشيط المبيضين للزوجة بأدوية مساعدة لإنتاج عدد أكبر من البويضات، ثم يتم سحب هذه البويضات جراحياً في وقت تكون فيه كاملة النضج لتُخَصَّب في المختبر باستخدام الخلايا المنوية التي أُخِذَت من عيِّنة السائل المنوي للزوج، تبدأ مرحلة انقسام الخلية فيقوم الطبيب بزرع الجنين في رحم الأم بعد خمسة أيام من تخصيبها..حيث ينمو طبيعيا حتى الولادة. سألنا الطبيب: - وهل هذه التقنيه تصلح لحالتنا ؟ أجاب: بالطبع لا .. فالسائل المنوي لك لا يصلح للإخصاب .. بدا الإنكسار علي وجهينا وشعرنا بالإستسلام بعد طول هذا العناء ، لكن الطبيب قال :
- إذا كانت رغبتكم أكيدة وعارمة في الحصول علي طفل ، فستجدون الحل في بنك السوائل المنوية .. سألته : وأين نجد مثل هذا البنك ؟ قال : لحد علمي لا يوجد هذا البنك في الدول العربية والإسلامية ، ولكنه يوجد في كثير من الدول في العالم وأشهرها الدنمارك التي يوجد بها أكبر بنك من هذا النوع ..سألته:- ولماذا لا يوجد هنا ؟ قال: – لإسباب دينة ، فالدين الإسلامي والمذهب الأرثوزوكسي المسيحى الغالب في مصر ، يعتبران ذلك نوعا» من الزني ، وانا اتعجب كيف ذلك ؟ فالزنا هو علاقه محرمة لزوجة مع رجل تعرفه غير زوجها ، أما في حالة المتبرع المجهول الهويه وبسائل محفوظ له في ذلك البنك ، وبموافقة زوجها علي هذا الإخصاب الذي يتم معملياً في المختبر، فأين هذا الزني ؟!! .. أن الدين يسر لا عسر، وقد قال المسيح لليهود المتشددين دينياً: ويل لكم لإنكم تحملون الناس أحمالا» عسرة ، وانتم لا تلمسون الأحمال بأحد أصابعكم .. وأخذتم مفتاح المعرفة ، ما دخلتم انتم والداخلون منعتوهم .. إستطرد الطبيب:
- وحتي يقبل المتبرع يجب أن يكون عمره من 18 إلي 35 عاما ويخضع لتصوير أشعة و تحليل الدم والبول لإختبار عدم وجود أمراض معدية أو وراثية وفيروس نقص المناعه والزهري.. هذا بالإضافة لعمل تقييم بدني ونفسي ومعلومات عن التعليم والهوايات ، أما بالنسبة للعينة المتبرع بها فيجري فحصها لمعرفة كمية الخلايا المنوية وجودتها وحركتها.. ثم يتم تجميدها بالنيتروجين وحفظها بصلاحية إستخدام ستة أشهر وبرقم كودي يمكن به الكشف عن السمات العامة للمتبرع كلون بشرته ولون عينيه وطول قامته ورسم كريكاتوري لوجهه ..رجعنا للمنزل وقلت لزوجتي :- إن هذه التقنية تضمن علي الأقل للطفل نصف الصفات الوراثية لكي كأم ، والنصف الآخر من متبرع مجهول الهوية نختار معا صفاته وسماته..فلا شئ يعادل فرحة الأم بنمو الجنين داخل أحشائها، وسعادتها عندما تري وليدها أمام عينيها تضمه إلي صدرها وترضعه سائل الحياة ، وهذا أفضل بكثير من التبني.. إبتسمت قائلاً:
-أخيراً، قد شارفت مشاوير الكعب الداير علي الإنتهاء، بمشوار خارج مصر،إستعدي للسفر معي، فالدنمارك هي الحل!!