بقلم: نعمة الله رياض
كانت سيارة الإسعاف تسير مسرعة تطوي الأرض طياً في طريقها لنجدة شخص يقف على سور سطح مبني من ثمانية طوابق، ويهدد كل من يقترب منه بالقاء نفسه من على سطح المبني ، وأخذ يصيح طالباً إحضار طبيبه النفسي فوراً لإنه الوحيد الذي يفهمه ، قال هذا وأخرج بطاقة تعارف بإسم الطبيب والقاها على الطريق وسط تجمع المارة لمشاهدة ما سوف يحدث .. تمكن الطبيب من تهدئة الشخص المقدم على الإنتحار وإصطحبه إلي عيادته النفسية ، وبعد أن قدم له مشروباً مهدئ ، سأله الطبيب : – عزيزي تامر ، هذا ملفك أمامي مذكور فيه أن آول زيارة لك لعيادتي كانت منذ أكثر من شهرين ، لماذا لم تحضر في الميعاد التالي الذي حددته لك ؟ رد تامر : أعذرني يا سيدي ، فقد مررت بظروف عصيبة جعلتني أفكر في الإنتحار ، وقد حاولت أكثر من مرة الإتصال بك أو بالعيادة دون جدوي.. سأله الطبيب :- أنا آسف لإني كنت خارج مصر ورجعت أمس فقط ، ولكن دعني أعرف تلك الظروف ..قال تامر:- في البداية كانت كل الأشياء والأحداث تبدو طبيعية ، المارة والسيارات في الشوارع، محلات الأغذية والملابس وغيرها ، وكنت أعود لمنزلي ليلاً في هدوء وأفتح باب شقتي في الظلام بدون أي ريبة أو خوف وأتناول طعام العشاء مع زوجتي مهما كان الوقت متأخراً ، واذهب إلي فراشي بخطي ثابتة .. ومنذ شهر واحد تقريباً ، فقدت زوجتي في حادث مروري ، ورحنت في هدوء ، واصبحت أرملإ يعيش وحيداً في شقتي ، وأثر فقدانها على كثيراً وأصبحت عصبيا أتعامل مع زملائي في العمل بحدة لم يعهدوها مني من قبل ، فعزمت أن أتلقي علاجاً لديك ، وبالفعل نصحتني بتناول أدوية بانتظام وحددت لي موعداً لزيارة تالية .. إلي ان حل موسم الخريف الماضي وفي ليلة أكتمل فيها القمر وأصبح بدراً وعندما إنتصف الليل، احسست بعدم الإرتياح مصحوباً بشعور غامض بالقلق والذي سبب رعشة باردة أخذت تسري في بدني ، وكان سبب انزعاجي إني لم اجد سبباً لهذا الإحساس بالرعب ، إلا أن هذا الإحساس قد تنامي وصاحبه تيار هواء بارد إخترق النافذة المفتوحة وسبب لي رعشة عصفت ببدني، شعرت بعدها بالإجهاد ، ولا استطيع فعل أي شيء أو حتي مشاهدة التلفاز .. أحسست أني أعيش في عزلة تامه بعيداً عن العالم .. كنت خائفاً ببساطة لأني لم أفهم كنه الرعب الذي أستولي على نفسي ، فعندما أتكلم أسمع صدي صوتي ، وإذا مشيت لا أعلم ماذا يوجد خلف الباب أو تحت الفراش أو وراء الستائر أو في الأركان المظلمة ، وإذا توقفت فجأه لألتفت وأري من يقف خلفي ، فلا أري شيئا بالطبع .. أصبحت مضطرباً لإن خوفي يتنامي ويتضخم ، لهذا لجأت إلي غرفة نومي ، واستلقيت على فراشي ، وخبأت جسدي ورأسي بالغطاء ، وأغمضت عيني في يأس ، وأنا أعلم اني تركت المصباح مضاءاً ، ولا أجسر على النزول من الفراش لأطفئه ..مرت دقائق على هذا الحال حتي قررت أن استجمع شجاعتي واخرج من الشقة الي الشارع لأبحث عن أي شخص يقف بالقرب مني اتكلم معه واسأله أي سؤال حتي لو كان سؤالاً غبياً ، لكن كان الشارع خالياً من المارة ولا يتحرك فيه سوي بضعة سيارات تمرق مسرعة ، عدت اجرجر قدمي إلي شقتي مرة أخري ووقفت طويلاً ومتردداً أمام باب الشقة ، وقبل أن أقرر الدخول لغرفة النوم في الظلام وهممت بالضغط على زر الإضاءة شعرت بأصبع يد غريبة تضغط هي أيضاً ولكن فوق أصبعي !! أصابتني قشعريرة وانتفضت ابحث عن الشخص الذي يقف خلفي، لكني لم اجد احداً !، حانت مني التفاتة لأنحاء غرفة النوم فرأيت سيدة تجلس على مقعد زوجتي الوثير تغزل خيوط التريكو، كانت تعطيني ظهرها ولا يظهر منها سوي رأسها ويديها الممسكة بالتريكو ، ناديت عليها ولكنها لم ترد ، اقتربت من المقعد ومددت يدي لألمس كتفها، لكني لمست خشب المقعد ، قفزت من مكاني مذعوراً ، لا يوجد أحد ، المقعد خالي !! تراجعت الي الخلف كأني اواجه خطراً داهماً ، لكن سرعان ما كنت استرد توازني ، واقنعت نفسي إنني أعاني من مجرد هلوسة أو رؤية لاشياء خيالية أو مجرد خداع بصري نتيجة لإجهاد العين ، فانا لا أؤمن بالاشباح ولا بالقوي الفوق طبيعية أو الموتي الذين يمشون ، فالإنسان عندما يموت يختفي ويفني تماماً وبدون أي أثر له في عالم الأحياء . قطع الطبيب حديث تامر معترضاً:- كيف هذا عزيزي تامر ؟ هل ننكر الأعمال الخالدة والإخترعات التي تركها لنا هؤلاء العباقرة ؟ رد تامر:- بالطبع لا ننكر، لكن لن يستمر وجودهم المادي الي الأبد ، قال الطبيب:- دعنا نستكمل حديثنا .. استطرد تامر قائلاً :- أنا أخاف من نفسي من أفكاري المخيفة ، من هذا الإحساس المرعب الذي لا يمكن وصفه ، ولا استطيع التغلب عليه ، لقد جلست على حافة الفراش وانحنيت لأخلع حذائي ، لاحظت اني أرتعش ، تملكتني رغبة قويه لإنظر ما في الغرفة واستدرت حول نفسي حتي استقرت عيناي على السيدة الجالسة مرة أخري!! في ذروة رعبي اندفعت نحوها لإري وجهها ، لكني صعقت عندما لم اري وجهاً بل جمجمه ترتدي غطاءاً للرأس !! اسرعت إلي إضاءة الغرفة فلم اجد شيئاً !! كانت فترة إختفائها فرصة لكي انال قسطاً من النوم ، رقدت على الفراش وحلمت بكل ما حدث كأنها أحداث حقيقية .. في الصباح الباكر وقبل بزوغ الشمس ، خرجت من المنزل لأستريح قليلا من هذا الكابوس بعد أن إطمأن قلبي بأنها لم تعد تظهر ، في العودة وعندما إقتربت من المنزل ، ساورني قلق بالغ وإحساس غريب بعدم الراحه ، كنت خائفاً من رؤيتها مرة اخري ، لم اكن خائفاً من حضورها الذي لا أؤمن به ، ولكن كنت اخاف أن يتم خداعي مرة أخري ، كنت أخاف من الهلوسة ، من الخوف أن يسيطر على ويتملكني .. ثم واتتني الشجاعة لأفتح باب المنزل ثم باب غرفة النوم ، القيت نظرة خائفة نحو المقعد ، لا شىء هناك !! يا إلهي !! قفزت في الهواء فرحاً ، كم شعرت بالراحة والسرور !! منذ ذلك الوقت لم يعد يظهر لي الشبح ، وحتي لو ظهر، وهو ما حدث كثيراً بعد ذلك ، سيان عندي! فانا لا أؤمن بوجوده .. لكني ما زلت قلقاً لإني أفكر فيه من آن لآخر.. أنا أعرف انه لا يوجد إلا في مخيلتي المريضة ، في خوفي وعذابي .. إنه موجود تحت الفراش وداخل خازنة الملابس ووراء الستائر وفي الأركان المظلمة ، لكنه لا يظهر إلا للضعفاء، أو إذا وجد في المكان إكثر من شخص واحد !! وفي اليوم الذي حاولت فيه الانتحار ظهرت لي السيدة الشبح وهي تقوم من مقعدها وتتجه نحوي ، وكانت تضحك بصوت مخيف كفحيح الأفاعي ، وهي تخلع ثيابها ليظهر تحتها هيكل عظمي كامل !!
إنتهي تامر من قصته ، وشرح ما يقلقه ويقض مضجعه، وسأل الطبيب:- هل هناك يا دكتور حل لهذه المعضلة التي كادت تقودني لمحاولة الإنتحار؟ ، أجاب الطبيب:- عزيزي تامر لقد ذكرت الحل بنفسك ، إن الشبح لا يظهر إذا وجد في المكان أكثر من شخص واحد ، إن وفاة زوجتك أفقدتك متعة الحياة الزوجية ، فقدت شخصاً آخر بالقرب منك ، يتمدد بجوارك في الظلام ، يتكلم معك ، تبادله المشاعر الفياضة .. الحل عزيزي تامر بسيط وهو أن تبحث عن زوجه تؤنس وحدتك ولا تخاف من الظلام !!