بقلم: د. حسين عبد البصير
مدير متحف الآثار والمشرف على مركز
د. زاهي حواس للمصريات-مكتبة الإسكندرية
الحج إلى أبيدوس
بداية من النصف الثاني من الأسرة الثانية عشرة على الأقل، بدأ الحجاج يتوافدون على أبيدوس من جميع أنحاء مصر القديمة كي يشهدوا الاحتفال السنوي بمعبودهم الأكبر أوزير. ومن لوحة الموظف الكبير « إيخرنِفرت» من عهد الملك سنوسرت الثالث والمحفوظة في متحف برلين، نعرف ماذا كان يحدث في ذلك الاحتفال. ويقول «إيخرنفرت»:
«فعلت كل شيء طلبه جلالته، ونفذت أمر سيدي من أجل أبيه، أوزير-خِنتي إمنتيو، سيد أبيدوس، عظيم القوة، الموجود في إقليم ثني. وكان الابن المحبوب من أبيه أوزير-خِنتي إمنتيو. وزينت مركبه الخالد العظيم، وصنعت لها مقصورة تظهر وتشرق بحسن وبهاء خنتي إمنتيو، من الذهب، والفضة، واللازورد، والبرونز، وخشب السدر. وصاحبت المعبودات في رحلتها. وصنعت مقاصيرها المقدسة من جديد. وجعلت الكهنة يمارسون واجباتهم بحب، وأن يعرفوا طقوس كل يوم، عيد رأس السنة. وسيطرت على العمل فوق المركب، وزينت المقصورة وصدر سيد أبيدوس باللازورد والفيروز، والشفاه الإلهية بكل حجر كريم. وغيرت ملابس الإله في حضوره… ونظفت ذراعه وأصابعه. ونظمت خروج الرب «وب واووت»، فاتح الطرق العظيم، عندما قرر الانتقام لأبيه. وطردت المتمردين من المركب. وهزمت أعداء أوزير. واحتفلت بهذا الخروج العظيم. وتبعت الإله عند ذهابه. وجعلت المركب يبحر. وأدار الدفة الرب جحوتي (رب الحكمة). وأمددت المركب بمقصورة وبالزينات الجميلة الخاصة بأوزير عندما تقدم إلى منطقة «باقر» (منطقة في أبيدوس). وأرشدت الإله للطرق التي تقوده إلى مقبرته في منطقة «باقر». وانتقمت لـ «ون نفر» (اسم من أسماء «أوزير») في هذا اليوم ذي القتال العظيم، فطردت كل أعدائه من على الشاطئين. وجعلته يتقدم في مركبه العظيم. وأخرجت للناس جماله. وجعلت أصحاب المقابر في الصحراء الشرقية سعداء. وشاهدوا جمال المركب وهي تتوقف بأبيدوس، عندما أحضرت أوزير-خِنتي إمنيتو إلى قصره، وتبعت الإله إلى بيته، وقمت بتطهيره، وأوسعت له مقعده، وحللت له كل مشكلات إقامته بين حاشيته المقدسة».
تم تحديد موقع مقبرة أوزير في منطقة «باقر» التي يبدو بوضوح أنها ليس أكثر من منطقة أم الجعاب نفسها. وفي وقت ما من عصر الدولة الوسطى، تم اعتبار إحدى المقابر الملكية القديمة على أنها مقبرة الإله أوزير. غير أن هذا الاقتراح لم يكن له ما يدعمه. والأكثر منطقية أن تكون جبانة أم الجعاب هي جبانة ملوك مصر الأوائل، ومن باب أولى أن أوزير تم دفنه بها. واعتبرت مقبرة الملك «جِر» مقبرة أوزير؛ لوجودها في مقدمة الجبانة، وذلك أنسب للحجاج؛ حتى يمارسوا احتفالهم السنوي بمعبودهم أوزير. ومع نهاية الأسرة الثانية عشرة وبداية الأسرة الثالثة عشرة، زادت مساحة الجبانة بشكل كبير وامتدت حوالي 1.5 كم إلى الجنوب الغربي من قرية كوم السلطان الحالية. وأصبحت أبيدوس المركز الرئيس لعبادة الرب أوزير. وأخذت عملية الحج أثناء الحياة والموت تزداد بشكل كبير. ورغب كثير من المصريين في أن يتم دفنوهم في أبيدوس بجوار معبودهم الأكبر أوزير، سيد الأبدية والعالم الآخر حتى ينعموا برفقته في العالم الآخر أو على الأقل كانوا يتركون أشياءهم التذكارية في ذلك المكان المقدس بين معبد أوزير ومقبرته. وهكذا تطور مقام أوزير من مكان بسيط لا يحتوي إلا على لوحات نذرية بسيطة إلى مزار كبير رمزي لا ينقصه سوى وجود مومياء المعبود أوزير. وتم إقامة الآثار واللوحات النذرية حول ضريح معبود المصريين الأكبر المعبود أوزير أثناء زيارتهم السنوية لأبيدوس؛ كي يشهدوا أو يشاركوا في الاحتفال ببعث وقيام أوزير بعد أن يتركوا آثارهم فوق مقبرة الملك «جِر» التي اعتبرت مقبرة أوزير التي تم دفنه بها.
أوزيريون سيتي الأول
الأوزيريون هو اصطلاح استخدمه الإغريق للإشارة إلى المقاصير الخاصة بالرب أوزير. وكان العالم بِتري أول من أطلقه من علماء المصريات على ذلك المبنى الموجود خلف معبد الملك سيتي الأول بأبيدوس حين اكتشفه في شتاء العام 1901 -1902 ميلادية. واكتمل تنظيفه العام 1926 ميلادية. ويقع خلف المعبد الجنائزي الخاص بالملك سيتي الأول وعلى نفس المحور وله نفس التخطيط والنقوش ويشبه مقبرة ملكية. ويدخل إليه من خلال ممر طويل منحدر. والحجرة الرئيسة به عبارة عن قاعة كبيرة تشبه الجزيرة. وتحيط بها المياه من كل جانب. وفي قلبها، يقع التل الأزلي الذي يرمز إلى إعادة بعث وقيام أوزير. وربما تم دفن أوزير في ذلك المكان. ويحمل سقف تلك الحجرة عدد من الأعمدة الجرانيتية الضخمة، وبقي وسط سقف الحجرة مفتوحًا. وكانت المقبرة مغطاة في السابق بتل أرضي محاط بأشجار على مسافات منتظمة. وتمثل تلك المياه الأزلية وإعادة عملية الخلق من العدم والمحيط الأزلي المعروف باسم «نون» العظيم عند المصريين القدماء. وهناك حجرة أخرى لها سقف منحدر بنقوش ملكية تشبه تابوتًا حجريًا. والنقوش غير مكتملة، ويغطي سطوح الممرات الداخلية فصول من كتاب البوابات (من كتب العالم الآخر عند المصريين القدماء)، والأجزاء الخارجية بعض فصول من كتاب الموتى، أو كتاب «الخروج في النهار»، كما كان يعرف في مصر القديمة. بالإضافة إلى بعض المناظر التي تمثل الملك سيتي الأول والملك مرنبتاح. وتاريخ المبنى مختلط. ويعود في الأصل إلى الملك سيتي الأول. وأكمل نقوشه حفيدة الملك مرنبتاح. واستمرت زيارة ذلك الأوزيريون إلى القرن الثالث الميلادي كما ذكر المؤرخ «سترابو».
الشيء الغريب حقًا أنه يوجد بهضبة أهرامات الجيزة بالقرب من الطريق الصاعد الخاص بالملك خفرع (من ملوك الأسرة الرابعة وصاحب الهرم الثاني بهضبة الجيزة) حيث تم العثور على بئر عميق مكون من ثلاثة مستويات. والمستوى الأول والثاني منها عبارة عن فجوات في الجدار بها تابوت مكسور، أو غطاء تابوت. ولكن الشيء المهم هو المستوى الأول والأخير الذي به مياه كثيرة لعلها المياه الأزلية التي بزغ منها خلق الكون. وتحيط المياه بتابوت يستقر في مربع حجري. ويحمل سقف تلك الحجرة أربعة أعمدة حجرية ضخمة. فهل تم دفن جثمان الرب أوزير في هضبة أهرامات الجيزة؟ وهل كان الأوزيريون، مقام أوزير في الجيزة؟ أم أن ذلك المقام هو أحد مقامات الرب أوزير العديدة؟
في النهاية، أقول إن قصة الرب أوزير هي قصة مثيرة مثل حياته وموته ودفنه وأسطورة بعثه وحمل زوجته المخلصة إيست أو إيزيس منه في طفله وولي عهده الرب حور أو حورس. إن تلك كانت هي قصة الأسطورة وصناعتها في مصر القديمة مبدعة الآثار والمليئة بالكثير من الغموض والسحر والجمال والأسرار.
أخنوخ في التوراة والعهد الجديد
بحسبروايات عدد من العلماء والمؤرخين والمفسرين المسلمين مثل الطبري والقرطبي وغيرهم، فإن نبي الله إدريس المذكور في القرآن الكريم هو نفسه أنس أو أنوش أو أنوخ أو خنوخ أو إنوك أو أخنوخ المذكور في التوراة. وجاء ذكره في التوراة «أنه مشى مع الله ولم يعد» في سفر التكوين)5:22-29). ورفعه الله من دون شرح مستفيض إلا أن «الله أخذه ولم يعد».وذُكر في العهد الجديد ثلاث مرات ثلاث مرات في لوقا 3:37))، وعبرانيين 11:5))، وفي يهوذا )14:1-15).
نبي الله إدريس
كان نبي الله إدريس أحد الأنبياء الكرام الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالي في كتابه القرآن الكريمحيث ذكر صراحة أنه نبي، وهذا يوجب علينا الإيمان به والاعتقاد في نبوته دون شك؛ لأن القرآن قد ذكره باسمه وحدث عن شخصيته؛ فوصفه بأنه نبي وصديق. وهكذا جاء ذكره في القرآن الكريم في حيث قال الله تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا. وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا» (سورة مريم: الآيتان 56و57). وذكر أيضًا في القرآن الكريم في حيث قال الله عز وجل: «وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» (سورة الأنبياء: آية 85). وقد قال البعض إن نبي الله إدريس هو المشار إليه في حديث معاوية بن الحكم السلمي، لما سأل رسول الله ﷺ، عن الخط بالرمل فقال: «إنه كان نبي يخط به، فمن وافق خطه فذاك».
وصل إلينا كلام كثير وأوصاف وأفعال عديدة نُسبت إلى نبي الله إدريس عليه السلام. وذكر كثير من علماء التفسير، والأحكام عنه أشياء كثيرة، كما ذكروا عن غيره من الأنبياء، والعلماء، والحكماء، والأولياء. فذكر بعض العلماء والمؤرخين المسلمين أن نبي الله إدريس كان أول الأنبياء من بني آدم، وأُعطي النبوة بعد آدم عليه السلام، وذكروا أنه كان أول من خط بالقلم، وقد أدرك من حياة آدم ثلاثمئة سنة وثماني سنين. وذهب بعض العلماء من الصحابة ومن بعدهم إلى أن إلياس وإدريس اسمان لنبي واحد، وأن إلياس هو إدريس وإدريس هو إلياس. وقال البخاري عن ابن مسعود، وابن عباس، إن إلياس هو إدريس.
قال البعض عن نبي الإله إدريس أنه هرمس الهرامسة، أي حكيم الحكماء، وخاط الثياب، وكان مثالاً للحكمة والعلوم الرياضية والفلك. وفي هذا ما يتناسب مع كلمة المعلم الأول وحكيم الحكماء، وأن هذا النبي إدريس علّم البشرية أشياء كثيرة قبل الحضارة.ومن الجدير بالذكر أن بعض العلماء والمؤرخين المسلمين زادوا وذكروا أن نبي الله إدريس قد حكم مصر، مثلما ذكر الإمام السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة»إن نبي الله إدريس بين من دخلوا مصر من الأنبياء، وذكر أنه عاد إلى مصر، وحكمها وزاد في مسار نهر النيل، وقاس عمقه وسرعة جريانه وكان أول من خطط المدن ووضع قواعد للزراعة وعلّم الناس الفلك والهندسة. وقال إن البعض يدّعي أن أحد أهرامات مصر هي قبر النبي إدريس عليه السلام. وذكر المقريزي أيضًا في كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»- أو الخطط المقريزية- أن إدريس كان ملكًا لمصر، وكان أول من بنى بها بيوتًا للعبادة، وأنه أول من علم البشر علم الطب.
لنا تكملة في العدد القادم