بقلم/ السعداوي الكافوري
في 11 ديسمير قبل مائة عاما كانت مصر على موعد مع مولد وجهها المشرق الابن البار الذي انطلق مثل قوس النور من ربوع حي الجمالية العريق بقلب القاهرة القديمة ليشعل وطنه إبداعا وتنويرا ويشتعل فيه عبقرية وعطاء ومنذ 1911 والأدب المصري يعانق لحظته التاريخية الخاصة لحظة جريان نهر نجيب محفوظ متدفقا بالتوازي مع جريان النيل الخالد صانعا حضوره الشامخ في صفحة الإنسانية شموخ هرم رابع يسكن ضفاف الوطن وينقش اسمه على صفصافه وأصداء نبضاته ويبادله الوطن عطاء بعطاء وعشقا بعشق ويباهى به العالم الذي توجه احد رموزه المستنيرة ومنحه أرقي جوائزه باعتباره بشارة مصر للعالم انه أديب نوبل الذي يحتفي الوطن والإنسانية كلها بمولده هذه الأيام .ولد نجيب محفوظ لأسرة من الطبقة الوسطى وكان والده موظفا حكوميا مكنته وظيفته من توفير أسباب الحياة الكريمة لأبنائه السبعة وكان أديبنا يحظى بعناية فائقة باعتباره اصغر الأبناء. قضى طفولة سعيدة ظلت مصدرا ثريا لإلهامه الروائي مع روافد أخرى أهمها تفتحه على ثورة 1919 ومعايشته بعض إحداثها وكان احد الشهود المهمين على المصادمات الدامية بين المواطنين وقوات الاحتلال الانجليزي واسهم ذلك في تشكيل رؤيته الإبداعية والبفكرية فيما بعد والتي اعتمدت في جوهرها على مجموعة المفاهيم والقيم والمبادئ التي ارتبطت أساسا بثورة الشعب المصري عام 1919 تناول نجيب محفوظ المعاني الإنسانية في رواياته الأدبية ففي رواية خان الخليلي كانت الحارة صورة حية لمجتمع مصر في صراعاته وتطوراته المختلفة مع كل جديد في الحضارة الحديثة . وانتقل من حي الجمالية إلى حي العباسية مع أسرته وكان الحي الجديد أعلى مستوى فتعرف محفوظ على طائفة من الأدباء والشعراء والمثقفين أمثال : إحسان عبد القدوس والدكتور ادهم رجب.
بدأ نشاطه الفكري وهو طالب واتصل بأستاذين كبيرين له هما : الشيخ مصطفى عبدا لرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية في كلية الآداب وسلامة موسى الصحفي والمفكر الكبير . وأخذ نجيب محفوظ عن أستاذه سلامة موسى نزعته التجديدية وتطلعه إلى الحضارة الحديثة وحماسه لفكرة العدالة الاجتماعية واهتمامه بالبحث عن أصول الشخصية المصرية في جذورها الفرعونية . وكان نحيب محفوظ محبا للضحك والنكتة والموسيقى والطرح وكان صديقا للناس يخاطب العامة يزور المقاهي ويلتقي بالأصحاب والأصدقاء في مقهى عرابي في حي الجمالية حيث زاره أكثر من عشرين سنة ومكان أخر كان يتردد عليه وهو مقهى على بابا وكازينو الأوبرا ومقهى ريش تزامنت سنوات دراسته الجامعية مع الأزمة الاقتصادية والقمع السياسي لحكومات الأقلية مما شكل لديه وعيا مدهشا بالحركات السياسية على اختلاف توجهاتها الفكرية ومنطلقاتها الإيديولوجية وبدا ذلك بجلاء في ثلاثيته الروائية الشهيرة قصر الشوق بين القصرين السكرية بعد تخرجه في الجامعة عام 1934 عين معيدا بكلية الآداب وانشغل في استكمال دراسة العليا حتى سجل أطروحته للدكتوراه عن الصوفية في الفلسفة الإسلامية لكن شاءت الأقدار إن يبتعد عن طريق البحث الاكاديمى بعد إن استبعده مدير البعثات من بين أعضاء البعثة المرشحة للسفر إلى فرنسا لاستكمال الدراسات العليا بسبب ظنه انه قبطي مجاملة للملك فؤاد الذي كان يعادى آنذاك الأقباط لأنهم كانوا يشكلون قوة كبيرة ومؤثرة في حزب الوفد المعارض للملك وأعوانه بدأت مسيرته الأدبية بكتابة المقال وسرعان ما اتجه إلى فن القصة القصيرة وظهرت أولى مجموعاته القصصية عام 1938 بعنوان همس الجنون وفى عام 1939 اصدر روايتيه عبث الأقدار وكفاح طيبة محاولا من خلالهما وتوظيف الفن القصصي لربط تاريخ مصر منذ الفراعنة وحتى اليوم وبدا يشك في إمكانيات القصة التاريخية ومقدرتها على الاشتباك مع إشكاليات الواقع من حوله فهجر الكتابة ذات البعد التاريخي إلى الكتابة الواقعية فجاءت روايات القاهرة الجديدة زقاق المدق خان الخليلي بداية ونهاية وغيرها ثم كانت الثلاثية التي توج بها مشروعه الروائي الواقعي وقدم خلالها سيرة ثلاثة أجيال تمتد على مدار 75 عاما من تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي المعاصر . وتعتبر أحدى الملاحم ( العائلية ) في الأدب العربي الحديث.
وتناولت الثلاثية سلوكيات وأخلاقيات وثقافة الطبقة الوسطى في أجيال ما قبل ثورة 1919 . وجيل الثورة . وجيل ما بعد الثورة .
بعد ثورة يوليو 1952 توقف نجيب محفوظ عن الكتابة لفترة حتى كاد أن يبتعد نهائيا . وكانت فترة مراجعة كاملة من جانب محفوظ لنفسه وأدبه وأفكاره ولا شك انه دخل خلال هذه المرحلة في صراع حاد مع نفسه بين نداء الفنان بداخله . والضغوط الخارجية التي يتعرض لها فلجا إلى الرمزية ليقدم رؤية ( أولاد حارتنا ) هي الأكثر تعبيرا عن تلك المرحلة التي اتسمت بالشاعرية والعذرية والابتعاد عن الوصف التقريري إلى التعبير بلغة مرهفة .
وانتقل محفوظ بإعماله الروائية والقصصية من تفسير علاقة الإنسان بالكون والعالم من حوله . بحيث أصبح أدبه بمثابة وثائق إنسانية تعالج أدق وأعمق ما تعانيه الإنسانية .
قدم نجيب محفوظ للمكتبة العربية 49 عملا روائيا تشكل في مجموعها إضافة مهمة للرواية العربية والإنسانية عموما .
واحتفت السينما كثيرا بأدب نجيب محفوظ فقدمت له أكثر من 30 عملا سينمائيا تعد من العلامات الفارقة في تاريخ السينما المصرية والعربية مثل أفلام :(القاهرة 30، بداية ونهاية خان الخليلي ، اللص والكلاب ، الطريق )
وصارت أسماء أبطال أعماله دارجة على ألسنه العرب من المحيط إلى الخليج فيصعب مثلا أن تجد عربيا لا يعرف ( سى السيد ) بطل الثلاثية أو ( محجوب عبد الدايم ) بطل القاهرة 30 وحصل معظم هذه الأفلام على جوائز عربية وعالمية قدمت السينما المكسيكية في الآونة الأخيرة فيلين عن روايتيه زقاق المدق وبداية ونهاية . مارس نجيب محفوظ كتابة السيناريو لعدد كبير من الأفلام الناجحة مثل المنتقم عنتر وعبلة الفتوة شباب امرأة كما كتب العديد من المسلسلات الإذاعية مثل ملحمة الحرافيش أولاد حارتنا .ولقد كان للأديب العالمي نجيب محفوظ مجموعة من الصفات النبيلة منها الدأب والإصرار فهو حينما يدرك أن لديه هدفا مشروعا واجب التحقيق لا يتوانى عن بذل الجهد وإجراء أكثر من محاولة وصولا لتحقيق هذا الهدف فعندما كتب ثلاثيته الروائية في حوالي ألف صفحة وتم رفضها من قبل الناشرين حاول مرة ومرات حتى وجد من ينشرها له وأحدثت دويا ونجاحا لم تحققه رواية عربية من قبل ومن صفاته أيضا المرونة والتجدد . ويعتبر النظام أهم ماكان يميز محفوظ فهوكان منظما في كل شئ في عمله ووقته بل في ملابسه أيضا وكذلك خفة الروح من صفات نجيب باعتباره أبا شرعيا للحارة المصرية أيضا تتسم شخصية الكاتب العالمي نجيب محفوظ بالثقافة الواسعة والمعرفة الغزيرة في شتى العلوم والفنون الآداب وساعدته هذه السمات على المضي قدما في طريق الإبداع الوعر حاصدا عشرات الجوائز بدءا بجائزة قوت القلوب الدمرداشية مرورا بجائزتي مجمع اللغة العربية ووزارة المعارف العمومية وصولا إلى اكبر واهم جائزة عالمية وهى جائزة نوبل في الآداب عام 1988التى جاءت كتتويج لمسيرة الأديب العالمي نجيب محفوظ في مضمار الأدب كما ترجمت معظم أعماله إلى العديد من اللغات الأجنبية . وبالرغم من رحيله فانه لا يزال شامخا كالهرم معطاء كنهر النيل قادرا على الاستئثار بمحبتنا ودهشة العالم .