بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
الحرب الباردة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية والتي كانت قائمة بين الإتحاد السوفياتي وحلفائه من جهة، وبين الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي من جهة ثانية، انتهت في مطلع تسعينيات القرن الماضي عند انفراط عقد الإتحاد السوفياتي. لم يعد يوجد بعد ذلك قطبان في العالم، وأصبحت الولايات المتحدة الأميركية الدولة العظمى الوحيدة والقطب الوحيد.
في تلك الحقبة، كانت روسيا تسيطر على سائر دول الإتحاد السوفياتي ولكنها كانت تعتبرها دولا مستقلة بنظر القانون الدولي كي يكون لها صوت مؤيد لروسيا في المحافل الدولية وخاصة في الأمم المتحدة.
ضعفت روسيا كثيرا بعد انحلال الإتحاد السوفياتي وتسلم بوريس يلتسن رئاسة البلاد حيث انتشرت نسبيا الفوضى والفساد وتم القضاء على النظام الشيوعي الذي دام عقوداً طويلة، وتراجع النفوذ الروسي في العالم بنسبة كبيرة.
تسلم فلاديمير بوتين رئاسة البلاد بين عامي 2000 و 2008، ثم تسلم بعد ذلك رئاسة الحكومة حتى عام 2012 حيث انتخب من جديد رئيسا للبلاد وهو ما زال الرئيس حتى يومنا هذا. بعد أن تحسنت بعض الشيء العلاقات الروسية-الأميركية على اثر انحلال الإتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، بدأت هذه العلاقات تسوء شيئا فشيئا، خاصة عندما بدأ الرئيس بوتين محاولة استرجاع أمجاد روسيا الماضية، ويبدو أن الولايات المتحدة حاولت عرقلة هذه المساعي فزادت العلاقات سوءا، وقد بدأت الأمور تزداد اضطراباً عندما بدأت بعض الدول من الإتحاد السوفياتي السابق تتجه غرباً عبر انضمامها الى حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي.
لقد اتهم الرئيس بوتين في مناسبات عديدة الولايات المتحدة بأنها قامت بالكثير من المساعي لاستجلاب جمهوريات البلطيك الثلاث – لاتفيا وليتوانيا وإستونيا – الى حلف شمال الأطلسي، كما اتهمها بأنها تحاول وضع أسلحة نووية في هذه الدول لتطويق روسيا وخنقها، علما أن هذه الدول الثلاث ومعها أيضاً الدولة البولونية، هي التي سعت الى الإبتعاد عن روسيا واتباع النظام الغربي الديمقراطي بعد أن كانت لعقود من الزمن خاضعة بالقوة للنظام الشيوعي السوفياتي بقيادة روسيا.
جدير بالتوضيح هنا أن هذه الدول التي كانت جزءا من الإتحاد السوفياتي كان يسكنها أعداد كبيرة من المواطنين الروس إذ لم يكن آنذك حدود رسمية تفصل دول الإتحاد عن بعضها البعض، وبعد انحلال الإتحاد السوفياتي، وجد عدد كبير من المواطنين الروس أنفسهم في دول مستقلة خارج روسيا.
كنت في تلك الفترة سفيرا للبنان في وارصو عاصمة بولونيا وسفيرا غير مقيم في دول البلطيق الثلاث ولا يمكن أن أنسى مظاهر الفرح والإبتهاج التي شاهدتها في وارصو أثناء المناسبات المختلفة التي أقيمت احتفالا بابتعاد بولاندا عن المحور الشرقي والتحاقها بالإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
أذكر جيدا بعد تقديم أوراق اعتمادي لرئيسة جمهورية لاتفيا وأثناء تبادل الأحاديث معها، اخبرتني عن لقاء كان لها قبل فترة من الزمن مع الرئيس الروسي بوتين الذي أبلغها، وفق ما قالت لي، أن المواطنين الروس الموجودين في لاتفيا ليسوا مسرورين ولا مرتاحين من جراء التطورات الحاصلة في لاتفيا، فأجابته، “إذا كان المواطنون الروس لا يعجبهم ما نقوم به في بلدنا، فما عليهم إلا أن يعودوا الى روسيا”. وفي ذلك دليل واضح على أن هذه الدول هي التي شاءت التوجه غربا والإلتحاق بالمؤسسات والمنظمات الغربية.
مثلما انضمت جمهوريات البلطيق الثلاث وبولاندا الى حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي، بدأت دول أخرى كانت في عداد جمهوريات الإتحاد السوفياتي مثل أوكرانيا وجورجيا تسعى أيضاً الى الإنضمام الى هاتين المنظمتين، وهذا ما أثار حفيظة روسيا برئاسة بوتين، وقد أدى ذلك الى مزيد من العلاقات المتوترة بين روسيا والولايات المتحدة، علما أنه لم يكن ذلك بمثابة حرب باردة إذ لم تكن روسيا في تلك الفترة دولة وازنة ولها ثقل عالمي يمكنها من الوقوف في وجه الولايات المتحدة على غرار ما كانت عليه أيام الإتحاد السوفياتي.
في إطار مساعيه لاستعادة أمجاد روسيا الماضية، بدأ الرئيس بوتين يوسع مجالات نفوذه في جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابق خاصة في منطقة آسيا الوسطى مثل كازاخستان وطاجيكستان وأوزباكستان وغيرها، وذلك عبر عقد اتفاقات في المجالات الإقتصادية والعسكرية والتربوية لدرجة أنه في عام 2023، كان يوجد في روسيا 185000 طالب من هذه الجمهوريات وقسم غير قليل منهم يدرسون على نفقة الحكومة الروسية، بحيث يصبحون في المستقبل مدينين لروسيا ومتحالفين معها.
كذلك حاول الرئيس بوتين تثبيت وتوسيع النفوذ الروسي عندما شن حربا على جمهورية جورجيا في العام 2008 بعد أن أعلنت مقاطعة أبخازيا ومقاطعة أوسيتيا الجنوبية انفصالهما عن جورجيا، فقام الجيش الروسي بالدفاع عن هاتين المقاطعتين اللتين أعلنتا استقلالهما وإن لم تعترف بهما إلا خمس دول إحداها روسيا، وما زال الجيش الروسي موجودا في هاتين المقاطعتين كما أنه يشكل ضغطا على جمهورية جورجيا كي لا تحقق رغباتها بالإنضمام الى الإتحاد الأوروبي.
من جهة ثانية، قام بوتين باجتياح أوكرانيا في شهر فبراير 2022 بحجة انها تسعى الى الإنضمام الى حلف شمال الأطلسي ومن ثم انكفأ الجيش الروسي نحو الشرق الأوكراني تحت وطأة المقاومة الوطنية المدعومة بقوة من الولايات المتحدة والدول الغربية، والحرب ما زالت دائرة وليس من مؤشر يدل على قرب انتهائها.
بفضل هذه المواقف التي اتخذها الرئيس بوتين، تمكنت روسيا من استعادة قسم لا بأس به من نفوذها في منظقة آسيا الوسطى ومناطق أخرى من العالم، وقد عززت كثيرا علاقاتها مع كل من الصين التي أصبحت تدعمها في حربها ضد أوكرانيا، ومع إيران التي تزود روسيا بمسيرات تستعملها في الحرب على أوكرانيا، وخاصة مع كوريا الشمالية التي هي أيضا تزود روسيا بالأسلحة والذخائر اللازمة لهذه الحرب.
من مؤشرات احتمال العودة الى حرب باردة جديدة التحرك الروسي المستجد تجاه كوريا الشمالية حيث قام الرئيس بوتين بزيارة رسمية الى العاصمة بيونغ يانغ منذ حوالى أسبوعين ووقع اتفاقا أمنيا يقضي بأن تساعد كل من الدولتين الدولة الأخرى في حال تعرضها لهجوم عسكري.
جدير هنا بالتذكير أن كوريا الشمالية تخضع لعقوبات دولية بسبب برنامجها النووي وهي على علاقات سيئة جدا مع الولايات المتحدة، كما أنها متقاربة جدا مع الصين التي تزاحم وتنافس الولايات المتحدة في المجالات الإقتصادية والتجارية والعسكرية والفضائيةعلما أن هنالك مساع أميركية واضحة لاحتواء الصين في منطقة “الإندو باسيفيك” عبر تحالف أميركي مع كل من اليابان وكوريا الشمالية والفيليبين وعبر تحالفها القوي مع تايوان التي تعتبرها الصين جزءا لا يتجزأ من أراضيها وهي تشير باستمرار الى رغبتها الأكيدة باستعادتها.
منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، فرضت دول الإتحاد الأوروبي ودول حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة عقوبات قاسية على روسيا التي أصبحت متحالفة مع بعض الدول المعادية للولايات المتحدة، فعقدت مع الصين اتفاق تحالف “غير محدود” كما تم وصفه في حينه، وعقدت مؤخرا اتفاقية أمنية مع كوريا الشمالية، كما انها عززت علاقاتها مع إيران بشكل ملموس.
فهل نحن على أبواب حرب باردة جديدة قوامها من جهة حلف شمال الأطلسي ومعظم دول الإتحاد الأوروبي وحلفاؤهما، ومن جهة ثانية تحالف روسي-كوري-صيني-إيراني وحلفاء هذه الدول مثل فنزويلا وكوبا وغيرهما؟ الأمر يتوقف على تطورات الحرب في أوكرانيا وطريقة انتهائها. ففي حال تم التوصل الى حل سلمي يرضي الجميع وهذا أمر صعب الحصول في الظروف السائدة، ، فإن الحرب الباردة ستؤجل الى حين وقوع أزمات كبرى غيرها، وفي حال استمرت هذه الحرب مدة طويلة، فإن روسيا بدون شك ستعزز علاقاتها مع كل من الصين وكوريا الشمالية وإيران ودول أخرى من آسيا الوسطى لتسكيل كتلة كبرى لمواجهة الولايات المتحدة وحلفائها في إطار حرب باردة بدأت تظهر معالمها منذ فترة غير بعيدة.