بقلم: محمد منسي قنديل
العام الماضي كان بحق هو عام الاكتشافات الاثرية، لقد باحت الحضارة الفرعونية أخيرا ببعض من اسرارها الدفينة، ط زحام سوق الخميس في حي المطرية أكتشف رأس تمثال للملك بسماتيك الذي حرر مصر من سيطرة الاشوريين واعاد توحيدها بعد أن مزقتها الحروب، وفي تل العمارنة تم اكتشاف رأس تمثال جديد للفرعون المثير للجدل اخناتون، وبذلك استطعنا التأكد من ملامحه ومن وجوده أيضا، كان فرعونا متمردا كما عرف في عصره، مجددا وثائرا على التقاليد، وعلى ضوء الدراسات الحديثة فقد كان اخناتون هو الرجل الذي اضاف لمسة روحية لحضارة كانت تعتمد على الاوابد الحجرية، حضارة راسخة سقفها منخفض، وكانت ابتهالاته للإله الشمس قطعا ادبية من الشعر الصافي، وفي هذا العام أيضا اعتقد الجميع أننا في سبيلنا لحل لغز قبر الاسكندر الأكبر، ولكن المقبرة التي اكتشفت في الاسكندرية لم تكن إلا انذارا خاطئا، وظل مكان القبر مجهولا، ورغم كل هذه الاكتشافات التي تصاعدت وتيرتها إلا أن السؤال يظل قائما، هل نستحق آثارنا؟
ومثلما تسارعت وتيرة الاكتشافات تسارت أيضا وتيرة النهب المنظم لآثارنا، ولم يعد الأمر قاصرا على مصر ولكنه امتد إلى كل المدن العربية المضطربة، ومع كل ثورة أو تمرد او افتقاد للأمن ،تكون الاثار أولى الضحايا، فهناك ذئاب جائعة في اوروبا وامريكا متلهفة لاقتناص أي قطعة قديمة من الآثار، الأمر الذي خلق عصابات منتظمة من الاوباش يقومون بهجوم كاسح في كل مناسبة يحدث فيها خلخلة في الأمن، حدث هذا للمتحف المصري اثناء ثورة يناير 2011، وحدث قبلها عند سقوط بغداد في ايدي الأميركيين، وعندما سقطت تدمر السورية في يد داعش، بعدها امتلأت محلات العاديات في «الجاليري دي لوفر» في باريس وغيرها في أوربا، وهي تعرض تحفًا نادرة وأصيلة من تراثنا للبيع جهارًا نهارًا، هذا غير عشرات القطع التي تسربت من خلال الاقنية السرية.
كل هذا عادي ومنطقي، ولكن غير العادي هو تلك المعاملة السيئة والمهينة التي تتلقاها منا الآثار التي نملكها بالفعل، فمنذ فترة رأيت في التلفزيون واحدًا من كبار المسئولين عن الآثار، كان عصبيًا وعال الصوت ولا يطيق أي انتقاد، مثله في ذلك مثل معظم المسئولين العرب، قال متفاخرًا أنه يوجد في مخازن هيئته ما يزيد على 30 ألف قطعة أثرية، غير مصنفة، ولا مرتبة، لذلك، فمن الطبيعي أن تتم سرقتها بانتظام، وعمومًا فكلها سرقات غير مهمة لأنها قطع مكررة، اغتظت من هذا المسئول وهو يتحدث عن تلك الكمية الكبيرة من الآثار المطمورة في المخازن دون أي مبالاة، ودون أي إحساس بالجريمة التي يرتكبها، وتذكرت جموع الزائرين وهي تتدافع لأقسام المصريات في متاحف لندن وباريس، وكيف تعرض كل قطعة فيها – مهما صغر حجمها – كأنها جوهرة نادرة، تذكرت الزيارة التي قمت بها لمتحف «المتروبوليتان» في نيويورك، وكيف وقفت مذهولاً أمام ما فعلوه بمعبد «دندرة» الصغير، وهو بالمناسبة اسم له وقع سيئ في الحوليات المصرية، فقد غرقت واحدة من سفن الركاب الضخمة كانت تحمل هذا الاسم، وكان السبب في غرقها – كالعادة – هو الإهمال وليست مياه النيل الهادئة، وتحول اسم السفينة إلى مادة يتندر بها المصريون ويؤلفون حولها النكات كعادتهم في مواجهة الكثير من الكوارث، وعاد الاسم يطفو مرة أخرى في منتصف السبعينيات حين قام الرئيس السادات بإهداء الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون معبدًا كاملاً يحمل اسم المدينة نفسه، يومها ثار الجدل هل من حق الرئيس – مهما كانت الصلاحية التي وهبتها له السماء – أن يهدي شيئًا لا يملكه أصلا ولكنه ملك أصيل لجموع الشعب وجزء من تاريخه وتراثه، كان معبد «دندرة» يحتل دورًا كاملاً في المتحف، يقف شامخًا وسامقًا ومشعًا بضوء خافت، مليئًا بسحر معتق وشجن حزين وعذوبة آسرة، تحيط به جداول من الماء تشبه نيلاً صغيرًا تؤازره بضع من أشجار النخيل، تحاول أن تزيل غربة المعبد الذي أقصي عن وطنه، كان الزوار يتحركون حوله في صمت وخشوع يقفون في صفوف طويلة ليعبروا المساحة الضيقة الملاصقة لقدس الاقداس، كأن أصداء الصلوات التي كانت تقام فيه تتناهى إليهم من أزمنة غابرة، وكانت جدران القاعة التي ينتصب فيها المعبد حافلة بالصور الوثائقية التي توضح كيف تم بها تفكيكه من جذوره وجلبه إلى هذا المنفى، لفت نظري أن صور أعمدته القديمة كانت ملوثة بالعديد من الأحبار والكتابات العربية بخط رديء «عطية يحب عزيزة، وعويس هو أجدع واحد في الصعيد»، وغير ذلك.. مرسوم بجانبها قلوب متعرجة وسهام متكسرة، وتواريخ وأسماء تلف أعمدة المعبد كأنها بردية قديمة، بات المعبد الآن نظيفًا وأنيقًا ولكنه فاقد الروح، مليء بجلال آفل ومشبع ببرودة التحنيط، المهم أنه كان محاطًا باحترام لم يتمتع به حتى في بلده الأصلي، كنت حزينًا لأن «الرئيس المؤمن» قد فرط في هذا الأثر النفيس، ولكني عزيت نفسي بأنه قد وقع في يد من يهتمون به حقًا، ويعرضونه لملايين البشر ممن يتوافدون بلا انقطاع عن هذا المتحف الشهير من العالم وهو يمثل جزءًا من غربة البشر والحجر.
اثار مصر هي العلامة الوحيدة والمؤكدة على أن لنا ماض مجيد، بعد أن فقدنا أي شيء آخر، لقد قدمنا للبشرية اهم اختراعين، الاختراع الافضل والأهم هو الزراعة، الذي حول البشرية من مرحلة جمع الطعام إلى انتاج الطعام، من تجوال الرعي إلى الاستقرار في بقعة صغيرة من الارض يتوفر فيها الماء والتربة الخصبة، ومن هذه البقعة الصغيرة تكونت القرى والمدن الكبرى، أما الاختراع الثاني والأسوأ فهو الحكم المطلق، فقد ظهر في مصر بنجاح ساحق ذلك الحاكم الإله الذي لا يمس، ويمتلك سلطة مطلقة لا ترد ولا تناقش، ويجري في عروقه دم ازرق اللون، هذا التأليه المصري المبالغ فيه للحكام لا زال ساريا حتى الآن، وهي ظاهرة وصفها بعض علماء السياسة بالعبودية الطوعية، حتى اصبحنا اشهر واقدم عبيد طوعيين في التاريخ، لا نختار حكامنا ولكنهم يفرضون علينا بطريقة أو بأخرى، والغريب أننا لا نرضخ لهم فقط ولكننا نقع في عشقهم أيضا، ونبني من اجلهم العديد من الآثار التي لا طائل من ورائها.