بقلم: شريف رفعت
ينتهي الطبيب من فحصه الدوري لي، يقول و على وجهه نظرة جادة:
ـ حالتك الصحية معقولة، ليس هناك تحسن لكنها في نفس الوقت لا تزداد سوءً.
يصمت برهة ثم يضيف:
ـ تبدو كأن أعصابك مشدودة، هل أعصابك فعلا مشدودة؟
يحيرني و يضايقني السؤال، أداري ضيقي تأدبا و أرد عليه:
ـ لا أعتقد ذلك، أعتقد أني عادي.
يجيب بإصرار و بحسم:
ـ لا، أنت أعصابك مشدودة، يجب أن نتعامل مع هذا الأمر، سأطلب من أخصائية نفسية من المستشفى الاتصال بك لترتيب مقابلة، سيساعدك ذلك كثيرا.
أشكره و أنصرف. أعود لمنزلي، أنظر في المرأة لأرى إذا كان هناك ما يدل على أن أعصابي مشدودة، لا أرى شيئا مختلفا فأنسى الموضوع.
علمتني مشاكلي الصحية أن أأخذ كثيرا من الآمور باستخفاف و لا مبالاة مع التسليم بالأمر الواقع، كان هذا هو مزاجي العام عندما ذهبت لمقابلة الأخصائية النفسية بناءً على ميعاد حددته لي عندما إتصلت بي هاتفيا.
وجدتها أصغر سنا مما توقعت، أعتقد أنها في أواخر الثلاثينات، حسناء، ذات إبتسامة نجحت في في أن تجعلها طبيعية و غير مهنية. أجلستني على مقعد مريح، أخذت مني المعلومات الروتينية، ثم بدأت أسئلتها، كان سؤالها الأول صادما إلى حد ما، أعتقد أنها تعمدت ذلك، سألتني:
ـ هل تعتقد أن جلساتنا معا هذه ستساعدك؟
متسلحا بلا مبالاتي و باستخفافي بظروفي و حالتي و كل ما يحيط بي قلت لها بهدوء و ددت أن يثير أعصابها:
ـ لم أجرب مثل هذه الجلسات من قبل، طبعا هناك احتمال أن يكون تأثيرها بسيطا أو ألا يكون لها أي تأثير.
أهملت ردي و قالت بحماس كأنها وجدت فرصة للتحدي:
ـ هل تعتبر نفسك سعيدا؟
ـ أعتبر نفسي إنسان عادي، أحاول أن أكون راضيا، لكن هناك لحظات من الحزن تنتابني، ألا يحدث هذا مع الجميع؟
ـ هذا ما نحن بصدده، لحظات الحزن، ما سببها؟ مَرَضَك؟
ـ مرضي أحد الأسباب، لكن هناك مشاكل أخرى شخصية.
ـ هل يمكنك أن تخبرني ما هي هذه المشاكل؟
ـ أفضل ألا أفعل.
ـ عادي، غير مهم. لحظات الحزن هذه هل تدفعك أحيانا للبكاء؟
ضايقني سؤالها، في الواقع ضايقني الموقف كله، سألت نفسي إذا كان هناك طريقة مناسبة للإنسحاب و مغادرة مكتبها. رددت بعد لحظة صمت:
ـ نعم، أحيانا.
ـ هي إذا ليست لحظات حزن، إنها لحظات إكتئاب و هذا ما سنتعامل معه.
كأنها شعرت أن أسئلتها قد أجهدتني نفسيا، كفت عن الأسئلة و بدأت تشرح لي طبيعة عملها، قالت أنها كأخصائية نفسية درست السلوك و العقل الإنساني و كيف يعملان. و المشاعر الإنسانية و طرق تحليلها و كيف أن الظروف المختلفة تؤثر عل الأفراد، شرحت أنها ليس لديها درجة طبية و بالتالي لا يمكنها وصف الأدوية. أنهت الجلسة و طلبت مني أن أحضر بعد إسبوع للجلسة التالية، رجتني ألا أتخلف، أكدت مقدرتها عل مساعدتي على التخلص من نوبات الحزن ـ أو الإكتئاب كما تسميها هي ـ التي تنتابني.
عندما حان ميعاد الجلسة التالية إنتابتني مشاعر متضاربة، فكرت في عدم الذهاب، لكني أخيرا قررت مقابلتها على أمل أن تستطيع فعلا مساعدتي. قابلتني بإبتسامة كبيرة، دخلت في الموضوع مباشرة، قالت:
ـ طريقة التعامل مع حالتك ستعتمد عل ممارستك لثلاثة أشياء، اليوجا و التأمل الروحاني و العلاج بتوجيه الطاقة أو الريكي. دعني أشرح لك كل منها.
بدأت الشرح بحماسة أن اليوجا مجموعة من التمارين الجسمانية و العقلية و الروحية نشأت في الهند القديمة تهدف إلى تحسين الصحة و الوصول للراحة الجسدية و النفسية.
شرحت أن التأمل الروحاني هو تكنيك لإراحة العقل عن طريق التنفس المنتظم و التركيز مما يصل بنا لحالة عقلية مختلفة عن حالة اليقظان العادي تهدف إلى بحث و إكتشاف جميع نواحي نفسيتنا و الوصول أخيرا إلى أعماقها بطريقة إيجابية مما يقود إلى السلام الداخلي.
أما الريكي أو العلاج بتوجيه الطاقة فهي عملية الغرض منها شفاء الشخص عن طريق سريان الطاقة من المـُـعالـِـج إلى الشخص بواسطة اللمس، يؤدي ذلك إلى تنشيط عملية الشفاء الطبيعي الكامنة في الجسم و إصلاح التوازن الجسدي و النفسي للشخص.
إستمعت لها بإنتباه، وجدت أنه من الذكاء أن أعطيها فرصة لشرح ما تود شرحه و تخليت بشيء من التردد عن رفضي و عدم راحتي لفكرة لقائي معها.
أخبرتني في نهاية اللقاء أنها هي نفسها تقوم بجلسات توجيه الطاقة و أعطتني اسم مركز تتوافر فيه كل هذه الخدمات مجانا. بدأت في التردد عل المركز مرتين إسبوعيا لليوجا و مرّة لكل من جلسات توجيه الطاقة و التأمل الروحاني. بالتدريج و ببطأ و خلال عدة أسابيع وجدت فعلا أن لحظات الحزن التي كانت تنتابني قَلـَت و أصبحت متباعدة، و حتي عندما تنتابني يكون التخلص منها سريعا و كاملا. لكن كان هناك شعورا غريبا يحتويني، شعوري بأني مـُبـَرْمـَج، قد أكون مبرمجا للأحسن لكني لا زلت مبرمجا. يمتزج مع هذا شعورا عميقا بالخواء. لكني أقنعت نفسي أن الخواء أفضل من الإكتئاب.
زوجتي قالت لي:
ـ لماذا أنت صامت أغلب الوقت؟ لم تكن أبدا كثير الكلام لكن في الفترة الأخيرة زاد صمتك.
لم أدري ماذا أقول أو ماذا يجب أن أقول، فكرت برهة ثم قلت:
ـ سأحاول تفادي ذلك، سأحاول أن أتحدث معكِ أكثر، سأحاول أيضا أن تكون مواضيع حديثي شَيــِقَة.
واضح من ملامح وجهها أنها لا تدري إذا كنت جادا أم أن ردي كان ساخرا، أنا نفسي لم أعرف.
بعد لحظات قالت زوجتي:
ـ هناك سيرك يزور المدينة، لماذا لا تأخذ الحفيد و تذهبا، ستقضيا معا و مع عروض السيرك وقتا ممتعا.
وجدت كلامها معقولا، فعلا في اليوم التالي أخذت الحفيد و ذهبنا للسيرك. جلسنا في أحد الصفوف الأمامية. بدأ البرنامج، هناك أضواء ساطعة و موسيقى صادحة و العديد من المهرجين. كأن السيرك يحاول أن يعوض المتفرجين عن واقع حياتهم اليومية الصعب، أم هو يحاول أن ينسيهم إياه. توالت العروض، رياضيون يقفزون عاليا و يسيرون متزنين على حبال معلقة، ترى كم من ساعات التدريب المكثفة إحتاجت منهم هذه المهارات لإجادتها. المتفرجون مشدوهون يصفقون بعد كل عرض، حفيدي مسرور مأخوذ بكل ما يرى.
آخر عرض، يدخل دب قطبي مع مدربه، منظره رائع أخاذ بلونه الأبيض الشاهق و جسمه الضخم المهيب، ترى كيف يكون منظره بعد العرض عندما يدخلونه في قفصه؟ ركب الدب دراجة بدت تحت جرمه الضخم صغيرة تنوء بحمله، دار دورتين حول الحلبة ثم أمره المدرب فقاد دراجته بمهارة فوق عارضة ضيقة تحتاج منه لمهارة في التوازن، ثم قام ببعض الحركات البهلوانية فوق الدراجة كأن يقودها و قد رفع قدميه الأماميتين من على مقوَدِها. بعدها أمره المدرب بإيماءة حازمة فقاد دراجته و مر بها وسط دائرة من النار عدة مرات، نال الدُبْ كثيرا من الإعجاب و التصفيق، في آخر العرض لف الدُبْ حلبة السيرك على الدراجة يحيي المتفرجين. عندما مر من أمامي إلتقت عيناه بعيني، شعرت أنه ينظر في عيني نظرة ذات مغزى، ثم أكمل دورته وسط صفيق الجمهور.
و نحن ننصرف سألت حفيدي إذا كان العرض قد أعجبه، أجاب بحماسة:
ـ جدا، بالذات الدب البهلوان، لقد كان ماهرا جدا و رائعا، هل أعجبك الدُبْ يا جدي؟
أجبته بإبتسامة:
ـ نعم أعجبني جدا.
لم أرغب ان أقول للصغير أني شعرت بالحزن و الأسى و الألم على هذا المخلوق الجميل البائس المـُـرَوَضْ.