بقلم: ادوارد ثابت
1- السياسة قد تُزيَّف الفن ، ولكن التاريخ لا يكذب
كان يسمع فيما يسمعه من الإذاعة المصرية في الستينات أغنية الفن التي كتبها صالح جودت ولحنها محمد عبد الوهاب والتي بدأت تذاع في الأربيعنات . كان يسمعها كثيراً ، ويستمتع بها ، ولاسيما المقدمة الموسيقية التي وضعها محمد عبد الوهاب لها ، فهي أروع ما قدم من ألحان . ففيها يبدأ اللحن هادئاً بالآت الكمان ، ثم تعزف آلة الكمان عزفاً منفرداً يؤديه أنور منسى الذي كان دائماً يؤدي ألحان محمد عبد الوهاب على هذه الآلة ، ثم تتحاور فيه مع هذه الآلات ثم تنفصل عنها وتعزف منفردة ثم تتحاور معها ثم تعزف الفرقة الموسيقية اللحن من البطئ إلى السريع ، ويتكرر ذلك مرة ثانية وبسرعة أكثر ، وبعد ذلك تؤدي آلة القانون عزفاً منفرداً ، ثم تعزف الفرقة اللحن من البطئ إلى السريع ثم تهدأ الآت العزف ، ويبدو ايقاع الأغنية خفيفاً فيعزف القانون منفرداً مرة ثانية ثم تتحاور معه الآت الكمان ثم تعزف الفرقة الموسيقية مقدمة الأغنية ، ويستمر الإيقاع اللحني تؤديه الآت الكمان مع نبرات خفيفة من آلة العود ويغني محمد عبد الوهاب . كان يستمتع بهذه المقدمة الموسيقية عندما يسمعها ومدتها أربع دقائق ويسمع بعدها الأغنية ،. ولكنه يستغرب لها ، فالأغنية من ستة أسطر فقط ، يتحدث فيها الكاتب عن الفن وقد أوحى له الليل أن النجوم تضئ السماء وأن جمالها يغري نجوماً ثانية هم الفنانين فيلقي إليهم حديثه فهم الذين أبدعوا الفنون ، وأن سرَّها فيهم ، وأن هذه الفنون كالخميلة المزهرة والفنانين ازهارها وأن الفن لحن يهز أوتار القلوب ، ودنياه جميلة هم أنوارها فيقول الكاتب باللهجة العامية :
الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها
نجوم تغري النجوم من حسن منظرها
ياللى بدعتوا الفنون وفي ايدكوا أسرارها
دنيا الفنون دي خميلة وأنتوا أزهارها
والفن لحن القلوب يلعب بأوتارها
والفن دنيا جميلة وأنتوا أنوارها
كان يستغرب من هذه الأغنية القصيرة ، فليس من الغالب أن تكتب أغنية بهذا الطول القصير ، ولكنه أعتقد أن محمد عبد الوهاب اكتفى بها ، وأهتم فيها بلحنه الذي يطول بعض الشئ ، ومع ذلك لم يقنعه هذا الأعتقاد ، ولا سيما أن الأغنية يكررها مرتين ، فحاول أن يعرف المبرر لها ولكتابتها هكذا فاتجه إلى دار الكتب المصرية التي كانت بشارع باب الخلق بالقاهرة والتي نقلت بعدها أمام كورنيش النيل ليبحث عن الوثائق لعله يعرف شيئاً ، وذهب إلى مقر صحيفة أخبار اليوم واطلع على بعض الصحف القديمة وما تكتبه في هذا المجال ، وبعد هذا البحث يكتشف شيئاً غريباً لم يكن يعرفه بل لم يكن يشك أن الكثيرين لا يعرفونه وهو أن هذه الأغنية طويلة أطول من هذه الفقرة التي يغنيها محمد عبد الوهاب مرتين ، وأن الأساس في كتابتها وفي مضمونها هو مدح الملك فاروق الذي كان ملكاً على مصر ثم على مصر والسودان منذ عام 1937 حتى عام 1952 عندما أدت حركة يوليو إلى تنازله عن العرش لأبنه أحمد فؤاد ثم تحولت مصر إلى جمهورية فتولى اللحكم محمد نجيب ثم تركه لجمال عبد الناصر الذي كان يكره الملك والعائلة الملكية كلها فدفعه ذلك إلى أن يغير أموراً كثيرة بالبلاد ، فغير أسماء الشوارع التي كانت تطلق على الملك وأفراد عائلته ، وأندفع نظامه إلى تغييرها كرهاً منهم أو مجاملة له ، وألغيت معها ألقاب البك والباشا على الرغم من أن هذه الألقاب أنتشرت بعد ذلك حتى غدت تطلق على من يمتلك منصباً راقياً ، ثم شاعت قصار العامة يطلقونها على الأفراد عند تحيتهم أو مقابلتهم ، وغيرت أسماء بعض الأماكن والشركات والمتاجر ، وظل بعضها كما هو لشهرتها وسعى عبد الناصر إلى تشويه شخصية الملك فاروق ، فلم يكن يبرز له إلا المساوئ وساعده على ذلك من يليه من أفراد الحكومة ، وساعدته وسائل الإعلام مجاملة على الرغم من الملك فاروق كان به مزايا كثيرة ولكنها لم توضح ، ومن بين ما لا يرتضيه جمال عبد الناصر ونظامه ، بل يكرهه ويغضبه هو ما يمدح الملك من الأغاني والأحتفالات التي تقام له ، ومن بين ما ألغي من الأغاني هذه الأغنية .. الفن .. ولكن يبدو أن المقربين من النظام أحسوا في الأغنية براعة اللحن وطلاوة أداء محمد عبد الوهاب فيها فأقروا بإذاعة المقدمة الموسيقية والجزء الأول منها الذي يمتدح فيه الكاتب الفن والفنانين والذي كان يتكرر مرتين . عرف بعد بحثه أن هذه الأغنية طويلة بها بعد الفقرة الأولى أو الكوبليه الأول كما يطلق عليه من اللفظ الفرنسي وهو مقطع غنائي أن بها ثلاثة مقاطع غيره أو بعده كل مقطع منها به مدح للملك فاروق يضع بينها محمد عبد الوهاب فواصل لحنية تختلف في شكلها وتتواءم في أصلها . أما المقطع الأول والثاني في الأغنية يتساءل فيه الكاتب أسئلة يشملها التوكيد يقول فيها أن من يصف الفن ويعرفه هو من يرتبط به ومن يهواه ويمس إحساسه وأن من حاباه وشرفه ورعاه هو الملك فاروق . يقول المؤلف في هذا المقطع
الفن مين يوصفه إلا عاش في حماه
والفن مين يعرفه إلا اللي هام في سماه
والفن مين أنصفه غير كلمة من مولاه
والفن مين شرفه غير الفاروق وراعاه
والمقطع الذي يليه لا يخلو من هذا المدح يخاطب به المؤلف الملك فيقول هو الذي أكرم الفنان ورعى فنه واغره ورضى عنه فأروى قلب بألحانه .. يقول :
أنت اللي أكرمت الفنان ورعيت فنه
رديت له عزه بعد ما كان محروم منه
ورويت فؤاده بالألحان برضاك عنه
أما الجزء الأخير من الأغنية فيوضح فيه الكاتب أن الفن كجنة ألوانها ساحرة وأن الفنانين يعيشون عليها ويغنون ألحانها ، فهم سكانها وأن الملك تاج البلاد الذي يرعاها ويحرسها فارتضته لها . يقول المؤلف :
الفن جنة بتسحرنا بألوانها
أحنا تاج البلاد الجنة سكانها
وأنت راعيها وحارسها ورضوانها
وإذا كانت الإذاعة قد أقرت بإذاعة المقدمة الموسيقية والجزء الأول من هذه الأغنية فهناك أغنية ثانية لمحمد عبد الوهاب منعتها كلها ، كتبها له نفس المؤلف صالح جودت، وأذيعت بمناسبة عيد ميلاد الملك فاروق وعيد الشباب في مفس الوقت وهي أغنية (الشباب) الذي يبدأها الكاتب فيقول :
قالوا لي إيه الشباب قلت الشباب غنوة
تسرح في ظل الربيع وفي طلعته الحلوة
ثم يسعى فيها إلى مدح الملك فيقول :
ياللي آمال الشباب ترويها أيدك
الليلة عيد الشباب الليلة عيدك
دعاني داعي شبابك قمت لبيتك
ميلادك ساحر جمالك قمت حبيتك
من كتر غيرتي عليك في القلب خبيتك
وقلت لك يا فاروق القلب ده بيتك
وعندما يأتي محمد عبد الوهاب إلى يا فاروق يغنيها عالياً وكأنما يتغنى بموال يرجع فيه (يا ليل) ثم ينهي الأغنية فيقول :
شبابك نفحة م الجنة تهني الروح وتسعدها
وتاجك مصر تتهنى عليه والدنيا تحسدها
وعيدك غنوة تتغنى وطول الليل أرددها
وأقول للفجر يستنى لفَّرح مصر يوم عيدها
وألحق أن محمد عبد الوهاب كان يهدف من هاتين الأغنيتين مع مدح الملك فاروق تكريماً له ، إلى أن يمنحه مكافأة أو لقباً كما منح أم كلثوم وسام الكمال عندما غنت أمامه أغنية (ياليلة العيد) التي كتبها أحمد رامي ولحنها رياض السنباطي عام 1939 في حفل من حفلاتها حضره الملك فاروق عام 1944 ليلة عيد الفطر بالنادي الأهلي بالقاهرة .
البقية في العدد القادم