بقلم: محمد منسي قنديل
عاد ابني من جامعته بعد أن درس مقررا في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كان غاضبا مني على وجه الخصوص، قال: لقد كذبت علي حين قلت أن مصر قد انتصرت على إسرائيل في حرب أكتوبر 73، بينما كل الدراسات والمراجع وحتى محاضرات الأستاذ تؤكد أن اسرائيل هي المنتصرة، كان حزينا ومصدوما كأنه هو الذي هزم شخصيا، لم املك في مواجهة غضبه إلا القول: أنه الاهمال المصري العقيم، كانت اكتوبر واحدة من أفضل المعارك في تاريخنا، خطة الحرب كانت كاملة، مليئة بالابتكارات، فكرة عظيمة لاختراق سد بارليف الترابي، وابتكار جديد لمد الجسور فوق مياه القناة، طريقة ناجعة يقوم بها المشاة لتدمير الدبابات الإسرائيلية، وكانت اسرائيل مسترخية وأمريكا غائبة والإرادة المصرية حاضرة، وعندما اكتسى رمل سيناء الباهت الصفرة بالبارود والدم جاءت لحظة الإهمال المميتة، اللحظة التي تنتاب العقل المصري وهو يقوم بعمل مهما كان عظيما، حدثت الثغرة بين الجيش الثاني والثالث وتدفق جنود اسرائيل للمرة الأولي في التاريخ إلى الضفة الغربية للقناة، الضفة الأفريقية كما أطلق عليها جنودها، ودمرت دباباتهم قواعد الصواريخ فأصبحت السماء المصرية عارية، وحاصروا الجيش الثاني المتمركز في سيناء، لم تنتصر إسرائيل تماما ولكنه كان قلبا لنتيجة الحرب، ولم ننهزم نحن كلية ولكننا لم نستطع فرض إرادتنا، وكنا السبب في بشكل أو بآخر في هزيمة سوريا وضياع الجولان مرة أخرى، هذا الاهمال في قيادة المعركة غير وجه التاريخ وكبلنا فيما بعد باتفاقية «كامب ديفيد» وتسبب في حالة متواصلة من التدهور السياسي العربي، جعل اسرائيل تفرض علينا كلمتها وتستنزف ثرواتنا، وتشرع في إبادة الشعب الفلسطيني، والأدهى من ذلك أننا لم نكشف عن أي وثيقة من وثائق هذه الحرب، تركنا إسرائيل تنفرد بالمشهد وتروي نصف الحقيقة وتزينها بالنصف الثاني من الأكاذيب.
هذه اللحظة من الاهمال لم تغادر ذاكرة جيلي، لم نعش فقط في كابوسها، ولكننا أدمنا الاهمال، تركناه يعشش في حياتنا كالفطريات السامة، ودفعنا للعيش على حافة الخطر، ولم يكن غريبا تستدعي الذاكرة هذه الواقعة كل سمعت عن واقعة تجسد فيها هذا الإهمال وجعلنا ندفع الثمن غاليا، مثل حادث العبارة التي ظلت تغرق في البحر الأحمر على مدى تسع ساعات دون أن يستجيب له أحد، لقد التقطت أجهزة الرصد في اسكوتلندا الاستغاثة الأولى، وارسلتها على الفور إلى جبل طارق التي أرسلتها بدورها للسلطات المصرية التي لم تأبه بها، أو بالأحرى لأنها كانت مشغولة بمتابعة مباريات البطولة الأفريقية وخاصة المباراة النهائية التي سيحضرها الرئيس مبارك، وفي الوقت الذي كانت أصوات الغرقى في الماء المالح تتعالي، كانت تطغى عليها أصوات الآلاف في استاد القاهرة، وكان الرئيس سعيدا بينما تبكي مئات الأسر المصرية ضحاياها.
هذه الحوادث ليست قديمة كما يبدو، فسلوك الإهمال مازال قائما ومجددا، وهو يوشك أن يقضي على صناعات بأكمها مثل السياحة، منطاد يسقط سماء الأقصر، ويحترق 19 سائحا أجنبيا بداخله، طائرة روسية تنفجر فوق سيناء ويموت كل من فيها، طائرات حربية تقصف فوجا من السائحين المكسيكيين، وفي الوقت الذي صدع فيه العاملون في السياحة رؤوسنا عن وقف الحال يقومون هم بقتلهم بامتياز، فلم نعد نسمع من أخبار السياحة إلا انقلاب الحافلات وموت السياح ونقل المصابين إلى مستشفيات متدنية الخدمة، ولا أدري لماذا تحرص شركات السياحة على استخدام سائقين قليلي الكفاءة، يقودون أحيانا وهم تحت تأثير المخدرات، ولا يستطيعون التصرف أمام أي عقبه يمكن أن تصادفهم على الطريق، كم سائحا قتلوا ومازالوا يصيحون أنهم يريدون سواحا، ربما لطلب المزيد من الضحايا، لقد لوث الاهمال هذه المهنة، وجعل زيارة مصر نوعا من المغامرة الخطرة، كما قال لي مواطن كندي، فنحن نتركهم فريسة لاستغلال اصحاب الحيوانات عند الهرم، وللمرشدين الجهلة وسط المعابد وفريسة لسائقي التاكسي، ولأعراب سيناء الذين يقومون اختطافهم، نحن نملك ثلث آثار العالم كما يقولون، ولكنها كم مهمل، مهدد بالانهيار أو بالتهريب للخارج.
نحن نقضي بأيدينا على اسباب وجودنا، وإذا كنا نخشى من الجراد القادم في الصحراء فنحن الجراد، قضينا على الأرض الزراعية التي كنا نقتات عليها واصبحنا شعبا عاجزا يقف دائما على حافة المجاعة ويستجدي طعامه من خارج حدوده، وحتى شريان النيل الذي نحن هبته نقضي عليه يوميا فنلوثه بالمخلفات من كل نوع، ونوجه لصفاء مياهه ابشع اهانة عندما تقوم مجموعات من البلطجية بردم المجرى للحصول على المزيد من الأرض، رغم أننا نعيش على أقل 7.7% من أرض مصر، وقد وصل الضعف والإهمال بأجهزة الدولة عدم استطاعتها حماية مصدر الحياة لمصر من بضعة بلطجية.
وبسبب الإهمال أيضا نحن مهددون بفقد واحد من أهم واقدم المرافق، سكك حديد مصر التي لم تشهد استثمارا جديا، وتحولت إلى مصيدة لحصد الأرواح، عربات متهالكة واخطاء بشرية قاتلة، في كل فترة نسمع عن حريق أو انقلاب أو عربات أو تصادم بيت قطارين يسيران على الخط نفسه، حوادث نادرة لا تحدث إلا في مصر، في الزمن الماضي كانت الهند تشاركنا فيها ولكنها افلتت من دائرة الإهمال الجهنمية وتركتنا ننفرد بها.
والنار هي الطاعون الذي ينشر في مصر الآن، الوليد الشرعي للإهمال، وفي هذا العام فقط أكلت النيران عشرات المصانع والمخازن المليئة بالبضائع، وقضت على أسواقا بأكملها كما حدث في سوق الموسكي منذ أيام قلائل، وعلى أحياء مثلما حدث في حارة اليهود، وهي العدو اللدود للتاريخ المصري، فقد التهمت ألسنتها عشرات المباني الأثرية النادرة، بدءا من الأوبرا وانتهاء بالمسافر خانة وقصر الجوهرة، وما تحول إلى رماد لا يبعث من جديد، وإذا كانت أجهزة الدولة بذاتها مهملة، فشيمة الشعب هو الرقص على إيقاعات هذا الإهمال، فهي لا تحسن اختيار رجالها، تنتقيهم بإهمال دون أن تبحث جيدا في خلفياتهم، والنتيجة لصوص فوق العادة في المناصب العليا، وزراء ووكلاء ومديرين عموم، يتم دائما ضبطهم متلبسين، اهمال سببه قلة التعليم وقلة الولاء وفقدان الضمير.
كنت في زيارة خليجية لبضعة أيام، وشاهدت انعكاس هذا الاهمال المصري، فالعمالة الأسيوية الماهرة والملتزمة تزيحهم من كافة المجالات، حتى في مجالات التعليم الجامعي، ولم يعد عائق اللغة يلعب في مصلحتنا، لأن الانجليزية اصبحت وسيلة التفاهم في كل المجلات، ولم يعد اللسان حجة نركن إليها، المهم هو المهارة في العمل، والإهمال المصري جريمة يجب أن يعاقب عليها القانون، فهو لا يتسبب في الخسارة الاقتصادية فقط ولكنه يحول وجه التاريخ المصري إلى الأسوأ، إنه حديث مؤلم، لأنه يقلل من كفاءتنا كشعب وينزع الثقة من داخل نفوسنا قبل أن ينزعها من نفوس الآخرين وهو يصيبني برعب قاتل وأنا اشاهد ذلك السعي الحثيث لإدخال المفاعلات النووية إلى مصر، هذه الصناعة التي تطلب أقصى درجة من الحيطة والحذر.. هل نقدر على التعامل معها؟