بقلم: شريف رفعت
طوال حياته و الحياة الأمريكية تبهره، الحياة الأمريكية كما رآها مئات المرات في الأفلام، كل ما فيها يبهره، سيارتهم، شوارعهم، أضواء المساء في مدنهم، نساءهم الجميلات المنطلقات، حتى حواراتهم معا و التي يقرأها مترجمة على الشاشة يجدها ذكية و أحيانا بها سخرية خفية لاذعة أو حكمة جميلة.
عندما يفكر في ذلك المجتمع بطريقة عقلانية تحليلية يزداد انبهاره، فهو المجتمع الصناعي العملاق الذي أعطى العالم العديد من الاختراعات المهمة، هو المجتمع الحاضن لصناعة الحسوب و صناعة السينيما و أخيرا الإنترنت.
حتى ما يعتبره البعض عيوبا في المجتمع الأمريكي مثل سطحية أفراده و جهل الأغلبية بما يدور في العالم خارج بلادهم، و اهتمامهم بالماديات، يجده هو عيوب خفيفة الظل تدفعه على الابتسام بدلا من النقد الموضوعي.
عندما يناقشه البعض عن مواقف أمريكا السياسية و ما يعتبروه تحيز ضد العرب، يخبرهم بأنه يفرق بين أمريكا كشعب و كحضارة و كتجربة إنسانية و هذا ما يحبه و بين سياسة الحكومة الأمريكية و التي هو مثل الكثير غيره في منطقتنا يعارضها و ينتقدها.
بالتأكيد انبهاره بالحياة المريكية هو ما دفعه لتدخين السجائر الأمريكية و لالتقاطه بعض الكلمات السهلة من حواراتهم في الأفلام و استخدامها في كلامه.
وفاة زوجته في سن مبكرة نسبيا جعله يدمن أكثر مشاهدة الأفلام، كأنه يهرب إليها من أحزانه و وحدته، جعله هذا أيضا قريبا من ابنتيه و ابنه الوحيد، يحاول أن يعوضهم عن فقدان الأم بحبه له و عطفه عليهم. ربطته علاقة خاصة بابنه، يراه تعويضا عن كل إخفاقاته، عن مستوى التعليم العادي الذي وصل له، عن الوظيفة الروتينية المملة الغير مجدية التي يشغلها، و عن حياته الشخصية الرتيبة الخالية من الإثارة. الولد كان فعلا فخرا لأي أب، متفوق في دراسته، رياضي، محبوب من أصدقائه الكثيرين و وسيم.
كانت أسعد لحظات حياته و التي تنافس في ذلك أوقات مشاهدته للأفلام الأمريكية إنفراده بابنه و تبادلهما الحديث و الأراء و النقاشات. يعلم أنه محظوظ لأن تفاعل الأبناء مع أبائهم نادرا في شبان هذه السن، حيث يجنحون إلى الانفراد بأنفسهم أو قضاء الوقت مع أصدقائهم و أقرانهم عن الحديث و المسامرة مع الأباء.
*****
أنهى الابن دراسته الجامعية بتفوق، أخبر أباه أنه يود أن يكمل دراسته العليا في الخارج، و أنه سيبدأ في مراسلة جامعات أجنبية للحصول على منحة لنيل الماجستير و الدكتوراه، شجعه الأب و نصحه أن يركز في سعيه على منحة من أمريكا، دار نقاش بينهما عن أفضلية جامعات أوروبية مميزة في مجال دراسة الابن و بين الجامعات الأمريكية، أخبره الأب أن أمريكا هي المستقبل بينما أوروبا هي الماضي، أخبره أن الموضوع ليست دراسة فقط لكنه في أمريكا سيعيش التجربة الأمريكية، سيتعرف على ثقافة مختلفة وعلى أسلوب حياة مميز، و هناك احتمالات العمل هناك بعد إتمام الدراسة، حيث المرتبات عالية و فرص التقدم لا حدود لها.
عندما جاءت موافقة أحد الجامعات الأمريكية على منحة دراسية للابن كانت فرحة الأب بالتأكيد أكبر و أعم، أمريكا التي طالما انبهر هو بها لسنوات طوال سيعيشها ابنه، سيعيش التجربة الأمريكية و يالها من فرصة و يا له من تحدي.
عندما ودع ابنه في المطار كان حماسه يغلب على لوعة الفراق، حماسة أب كي يبتعد ابنه عنه، كي يسافر و يغزو بلدا طالما انبهر هو به، يغزوه بالنيابة كوسيلة لتحقيق حلم الأب الخاص، بدى الموضوع لابنتيه اللتين اصطحبناه للمطار لتوديع أخيهما غريبا بعض الشيء، الابنة الصغرى بالذات كانت تشعر بالحرج من تصرفات الأب التي تجدها صبيانية و داعية للسخرية.
*****
يستقر الابن بأحد المدن الكبرى، في البداية كان التواصل بينهما يوميا، ساعدت وسائل الاتصال الحديثة على سهولة الحوار و على رؤيتهما لبعض من خلال شاشة الحسوب، بمضي الوقت انشغل الابن بالدراسة و بشئون حياته فقلت اتصالاته.
مـَثـَلَ سفر الابن و دراسته و معيشته في أمريكا حلم تحقق للأب، ها هو ابنه يعيش الحياة الأمريكية التي طالما بهرته، ها هو يمر بالتجربة الأمريكية التي ستوسع أفاق معرفته على مختلف الأصعدة و تدخله عالما جديدا رائعا. و من يدري قد يجيء اليوم الذي يزوره هناك، ألن يكون ذلك رائعا، هو نفسه في أمريكا يعايش الحلم الذي حلم به طويلا، عبر الأميال التي تفصلهما بدأ بينهما تواصل طريف، فالإبن يحكي الجديد و المثير الذي يمر به، بينما الأب الذي لم يبارح مدينته سوى لمما يعطي النصائح عن كيفية المعيشة و التفاعل مع المجتمع، نصحه بأنه كي يعيش التجربة الأمريكية عليه أن يتخذ أصدقاء أمريكان و ألا يقصر صداقته مثل أغلب المبعوثين على أبناء وطنه، حثه على اتخاذ “جيرل فريند” و أن يمضي وقتا ممتعا معها، طلب منه أن يهتم ـ بجوار دراسته ـ بالأحداث الدائرة حتى يفهم المجتمع و يكون جزأ منه. الابن بطبيعته كشاب منفتح على الحياة و ذكي و اجتماعي اندمج فعلا في الحياة الأمريكية، لاحظ الأب بارتياح الأشياء الصغيرة التي تغيرت في ابنه مثل ملابسه و طريقة كلامه، فرح جدا عندما أخبره ابنه أنه ذهب مع بعض الأصدقاء للعب الجولف لأول مرّة، كانت قمة سعادته عندما عرف بتحول علاقة ابنه مع إحدى زميلاته الأمريكيات إلى صداقة حميمية و أنهما يخرجان بانتظام معا و يستمتعان بأوقات فراغهما معا. ها هو من خلال ابنه يستمتع و لو من على بعد بالتجربة الأمريكية التي طالما بهرته.
*****
مضت سنتان أنهى فيهما الابن شهادة الماجستير، و سجل لرسالة الدكتوراة، كان هناك نقاش بينهما على عودته لمصر قبل اسئناف الدراسة، لكنه فضل البقاء هناك و العمل لكسب مبلغ من المال يساعده على تكاليف معيشته، و شجعه أبوه على ذلك.
تمر السنة الثالثة، الابن مستمر في دراسته بدأب و تفوق، و الأب مستمر في اعجابه و انبهاره، حتى كانت مكالمة بينهما أخبره فيها ابنه برغبته في زيارة مصر خلال شهرين لأنه اشتاق للبلد و لأختيه و بالذات له هو، أخبره أيضا أنه سيستغل الفرصة ويذهب لأداء فريضة الحج قبل عودته لأمريكا، كانت هذه الرغبة محيرة للأب، حضوره لزيارة بلده و اسرته أمر مفهوم لكن ذهابه للحج أمر غريب لشاب في سنه يعيش في أمريكا و يسعى للنجاح و الإنجاز و تحقيق الذات، أبدى الأب دهشته لكنه لم يعترض بطريقة حاسمة، قال له بأنه يجب أن يستفيد من وقته لأقصى درجة و أن فريضة الحج يمكن أن تؤَدَى لاحقا عندما تسنح الظروف. كان رد الابن أنه يحتاج أن يستكشف الجانب الروحاني في شخصيته، أنه ينظر لموضوع الحج على أنه تجربة إنسانية روحانية بالإضافة لكونها عبادة.
سأل الأب نفسه، هل هناك من أثر على ابنه، يعلم أن المتشددين دينيا موجودون في جميع أنحاء العالم، فهل هناك جماعة إسلامية موجودة في جامعته أو مدينته استطاعت التأثير عليه، و هل الحج هو بداية لتغيير في عقلية الولد، عندما أخبره الابن بأنه يفكر في أن يصحبه معه ليزوره في أمريكا عند رجوعه من مصر كي يمضي معه عدة أسابيع، شعر بفرحة شديدة، هذه هي فرصته لزيارة أمريكا التي طالما انبهر بها، أمريكا التي غزاها ابنه و يواصل تحقيق نجاحاته بها.
*****
تأتيه مكالمة هاتفية من أحد أصدقاء ابنه، الولد أصيب بطلق ناري أثناء تواجده في منطقة جرى فيها إطلاق نار بين الشرطة و من تعتبرهم الشرطة خارجين عن القانون، مات فور وصوله للمستشفى، يقوم أصدقاء الابن بالإجراءات اللازمة لشحن جسده في صندوق لأبيه.
لم يعرف كل التفاصيل، لماذا تواجد الابن في هذا المكان؟ أي طرف أصابه في مقتل؟ هل قال شيئا لمن حوله و هو في النزع الأخير؟ العديد من الأسئلة لا يعرف يوجهها لمن و لا يعرف إذا كان هناك إجابات لها، تقول له ابنته “لقد فقدناه فماذا تفيد الردود على هذه الأسئلة؟”، لا يعرف كيف يجيب.
يقام العزاء، يبدو الأب أثناءه غير مستوعب للموقف، يبدو ضائعا اكثر منه حزينا، تنتابه حالة من الإنكار، كأن الواقع المؤلم لم يصله بعد. ينصرف المعزون، يجلس بمفرده ساهما، تحضر ابنته الكبرى، تمسك بيده كي تواسيه دون أن تتكلم، يقول لها ببطأ و بلهجة تقريرية خالية من أي مشاعر:
ـ لن أذهب لزيارة أمريكا، لن يذهب أخوكي للحج، و لن يكمل معيشة التجربة الأمريكية.
فضلت الإبنة ألا تعلق.