بقلم: محمد منسي قنديل
المصريون القدماء كانوا هم من اخترع الحياة الأخرى، هم الذين غزوا التاريخ بفكرة البعث بعد الموت، وكعادتهم في تعقيد الأمور اخترعوا أيضا الثواب والعقاب، كأن لم تكفهم معاناة الحياة الدنيا فقسموا الآخرة إلى جنة ونار، وكالعادة أيضا وضعوا شروطا صعبة للحصول على الغفران والثواب، فالإلهة “ماعت” التي تقوم بالحساب تمسك ميزانا حساسا، تضع في كفة منه ريشة، أي أنها لاتضع شيئا يمكن وزنه تقريبا، وفي الناحية الأخرى تضع قلب المذنب، واحد من قلوبنا نحن البشر الفانيين، فماذا تتوقع أن تجد، حتى اقل الذنوب لا يمكن أن تقاس بخفة الريشة، لذا فرغم وجود العالم الآخر إلا من الصعب دخوله على المصري العادي، لا يدخله إلا الفراعنة والقادة العظام، لانهم يصلون للعالم الآخر وهم على أهبة الاستعداد، اجسادهم محنطة جيدا في توابيت فخمة، وبجانبها أوعية من الفخار مليئة بالأطعمة، وبرفقتهم امتعتهم واسلحتهم وأحيانا زوجاتهم، يأتون وهم مستعدون للبعث الفوري وربما للحكم في الحياة الأخرى، أما اجدادنا من الفلاحين فيصلون إليها عزل، سفر اليدين وربما لا بصلون على الاطلاق تأكلهم الديدان دون أمل في أي بعث، وفكرة الحياة الأخرى لم تكن مجرد خاطرة اسطورية، فقد اثرت في الي كتابه الذات البشرية بعمق، وخلقت فكرة الضمير في داخلها، كما يقول عالم الاثريات “بريستد” في كتابه “فجر الضمير”، فالتعامل بين البشر يكون مختلفا إذا عرفوا أن هناك قوى تراقبهم وتحكم على تصرفاتهم، بل وتضع الحدود بين ماهو مباح وما هو محرم، ويقول الاديب الروسي الشهير دوستويفسكي: “ إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح”، حتى قبل نزول الاديان كانت فكرة الله مرتبطة بالضمير، فالحياة لا تنهي أبدا بالموت، ولكن على الانسان أن يدفع جراء افعاله حتى لو تحلل جسده لأن روحه تبقى حية ومسئولة عن حياتها القديمة، ولم يتوصل المصري القديم إلى فكرة استمرارية الحياة من فراغ، فقد استوحاها من مظاهر الطبيعة التي تحيط به، فكل غروب للشمس يتبعه شروق، وكل جفاف للنهر يعقبه فيضان آخر في العام الذي يليه، والزرع الذي يتم حصده يعاود الانبات مرة أخرى، الحياة كلها دورة لا تنتهي فلماذا يحكم على الانسان وحده بالفناء.
ولكن فلنترك الاساطير الفرعونية خلف ظهورنا، ففكرة العالم الآخر قد تأسست وأكدتها الأديان، وتدعمت فكرة الجنة والنار، وبالغ المشايخ في تخوفينا من عذاب الآخرة لحد الرعب، ولكن ماذا لو القينا عليها نظرة معاصرة، وماذا عن الفروق بين الجنة والنار، إنها كثيرة ولكن كيف يمكن تحديدها؟ هناك أكثر من طريقة وفقًا للمواصفات الغربية، فنظام الجنة يجب أن يكون كما يلي: رجال الشرطة من كندا، فمن واقع خبرتي هم مؤدبون لحد لا يطق وعلى كفاءة عالية أيضًا، ولا يظهرون في الشوارع إلا نادرًا، في الظروف العادية هم مختفون، ولكن عندما تحدث مشكلة تجدهم فجأة وبأعداد كبيرة دون أن تعرف من أين هبطوا، وأن يكون رجال البنوك من سويسرا، ولا أحد يجادل في دقة البنوك السويسرية، بالرغم من أنها تلتهم نقود الرؤساء السابقين، وتجعل من الصعب استعادتها مرة أخرى، ويكون الراقصون من البرازيل، وليس أجمل من أن تكون الحياة في الجنة كلها على إيقاعات السامبا، وأن يكون جرسونات المطاعم من فرنسا، فهم الأكثر أناقة وتهذيبًا ولا شيء يعلو على ذوق المطبخ الفرنسي، وأن تكون الماكينات من اختصاص الألمان، فهم أفضل مَن يتعامل مع الآلات، ويكفي أن نعرف أن منتخبهم القومي يطلق عليه لقب الماكينات الألمانية، وأن يكون العشاق من الإيطاليين حتى يصدحوا بأغنيات الأوبرا تعبيرًا عما تعتلج به قلوبهم، والعاشق الإيطالي هو الأكثر أناقة وسحرًا، وقد احترف الكثيرون منهم مهنة اصطياد النساء العجائز ويطلق عليهم لقب «جوكولو»، وهي مهنة أشبه بالبغاء الرجالي. أما إدارة الجنة كلها فيجب أن تكون بأيدي البريطانيين، ونحن جميعًا نعرف أنهم قد أداروا نظام العالم ذات مرة.
أما في الجحيم فالأمر مختلف، فرجال الشرطة من الألمان، بما عرف عنهم من صرامة وقسوة نازية، رجال البنوك من البرازيل، فيبدو أن الفساد ضارب الجذور في المؤسسات المالية لهذا البلد، ولعلنا نذكر أنها قد وقف ذات مرة على حافة الإفلاس، أما الراقصون فهم من سويسرا، تخيل واحدا من مديري البنوك وهو يرقص، أما الجرسونات فهم من بريطانيا، بكل ما فيهم من برود وتعالٍ، تطلب منهم شيئًا فيرمقونك بنظرة احتقار، والعشاق من كندا، وهم أسوأ أنواع العشاق، والمرأة الكندية تبحث عن الغرباء أولاً، ونسبة الطلاق عالية، وقد تخلت العديد من النساء عن نظام الزواج الذي يقيدها إلى شريك واحد، أما الماكينات فسوف تكون تحت إشراف الفرنسيين، أما إدارة الجحيم كله فستكون تحت إشراف الإيطاليين، وبهذا ندرك أن المافيا ستكون طرفًا في كل شيء.
هل يمكن تطبيق هذه المواصفات على عالمنا العربي، اجتهاد صعب، ونحن كعرب سريعو الغضب، نأخذ الدعابة العابرة كأنها اتهام لابد من الرد عليه، ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى وغير ذلك من التراهات، وما سأقوله هو رأي شخصي يعتمد على خبرتي من خلال زيارتي لأقطارنا العربية، وربما كنت مخطئًا، فالشرطة في الجنة تشرف عليها «عمان» لأن رجال الشرطة بها هم الأكثر تأدبًا وانضباطًا، أما التجارة فمَن أجدر بها من أهل الكويت الذين جابوا العالم منذ وقت مبكر؟! أما الراقصون فمن لبنان، من يمكن أن يجاريهم في رقصة «الدبكة»؟! أما المشرفون عن المطاعم فهم السوريون، فهم يضعون أمامك 25 صنفًا من المقبلات في لمحة بصر، أما الماكينات فهي من اختصاص المصريين، وفيهم عدد لا يحصى من الحرفيين والصنايعية والمهندسين، أما العشاق فهم أهل اليمن الذين جاء منهم أشهر العشاق عبر التاريخ، والشعراء موطنهم العراق، وسيقودون حركة الشعر الحديث في الجنة، أما إدارة الجنة فسوف نتركها لإخواننا المغاربة ربما يكونون الأقل فسادًا بيننا جميعًا.
دعنا إذن من الحديث عن الجحيم العربي، فهو متحقق في واقعنا كل يوم، فقد خربوا مدنهم وسدوا شوارعهم بالمتاريس، واستبدلوا ثمن الخبز بالرصاص، وقتلوا من بعضهم البعض أكثر بكثير مما فعل الأعداء.