بقلم: إدوار ثابت
ملخص العدد السابق
ألتحق بكلية من الكليات العملية على مضض منه فقد كان يهوى الأدب والفن ولم يهون عليه إلا رتباطه ببعض الأصدقاء وفي السنة الرابعة وفي أول العام يتجه صديق من أصدقائه إلى صالة المعمل فقد كان الدرس عملياً فيبدو عليه القلق والإضطراب وعندما يسألونه يقول لهم لقد تشاجر مع إمرأة في سيارة عامة فكانت هذه المرأة هي المعيدة التي تشرح لهم الدرس فخشي أن تتحداه فيرسب في مادتها لكن المعيدة تصفح عنه وتقول له أن من مبادئها ألا تربط بين العلاقات الشخصية وبين مجالها في العمل .
ينهي دراسته بالكلية العملية التي ألتحق بها على مضض منه ، ويحصل على درجة البكالوريوس فأضحى يمتلك الرأي وله أن يقرر ويبحث عن الدراسة التي تستهويه ، فيقرأ يوماً بجريدة من الجرائد اليومية إعلاناً يعلن فيه معهد من المعاهد الفنية عن قبول دفعة جيدة من المتقدمين إليه فيشعر برغبة وتحمس لا يخلوان من توتر وقلق في التقدم إليه فيذهب سريعاً ، ويسأل ويعرف ما عليه أن يقدمه من أوراق ولا ينتظر فينظمها ويقدمها إلى مكتب الإدارة في بهجة ومتعة ، وفي ذلك العام تقدم للألتحاق بالمعهد ما يقرب من خمسائة شاب وفتاة ، وكانت من قواعد المعهد أن على المتقدمين تأدية امتحانين يقبل من ينجح فيهما ، ومن تستوعب أقسام المعهد أفضلهم ، أولهما أمتحان باللغة العربية لم يعرف مضمونه ، ولكنه رأى أكبر الظن أن أسئلته لا بد وأن تكون في الفن الذي تخصص فيه دروس المعهد أو في الفنون عامة ولا سيما المرتبطة به أما الثاني فهو في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية كيفما يرغب المتقدم في تأديته بأية لغة منهما ثم دراستها بعد أن ينجح في امتحانه مع ما يدرسه المعهد من مواده المختلفة .
وأجرى أمتحان اللغة العربية وكانت أسئلته بعضها في الفن الذي يدرسه المعهد وبعضها في غيره من الفنون ، وبعضها في الأدب والشعر ومن أشتهروا بهما ، فأجاب عنها وشعر أن إجاباته قد أرضته ، أستطرد فيها وأسترسل ووضع فيها من ثقافته وقراءاته ما تحتاج إليه الأسئلة بل أكثر منها . أما أمتحان اللغة ففضل أن يمتحن في اللغة الفرنسية التي يراها تطيعه عن الإنجليزية فهو يستسهلها عنها في الكتابة والتحدث على الرغم من أن الغالبية يرونها أصعب من الإنجليزية . وفي ذلك الأمتحان قسم المسئول عن الإدارة المتقدمين إلى قسمين رآهما هو فأندهش لهما . فمن الخمسمائة متقدم الذين تقدموا للألتحاق بالمعهد أصطف لأمتحان الإنجليزية حوالي أربعمائة وخمسين وأصطف لأمتحان الفرنسية وهو معهم ما يقرب من الخمسين فقط . وأجرى الأمتحان فرأى أسئلته سهلة عليه بدأت بسؤال يقول : لماذا ترغب في أن تلتحق بهذا المعهد فكتب فيه إجابة ملخصها ومضمونها أن الهواية تقوى بالعلم والمعرفة وتنمو بالدراسة والخبرة ثم تلته أسئلة منها في اللغة وقواعدها ومنها في مفرداتها ومنها في الترجمة من اللغة الفرنسية إلى العربية فإذا إجاباته عن ذلك الأمتحان قد أرضته ووثق فيها مثلما أرضاه أمتحان اللغة العربية بل أكثر منه . ويستدني نتيجة الأمتحان في ترقب ، ولكنه كان يشك في أمر ما حدثه به بعض أصدقائه ، فسألوه هل يمتلك واسطة فمثل هذه المعاهد الفنية يقبل بها غالباً من لهم من الشخصيات الهامة من يؤهلهم للقبول وإن لم يكونوا من المتميزين ، وهذا حق يعرفه يقيناً . ولم يكن له هو مثل هؤلاء وإن كان يعرف بعضهم فهو يخجل من أن يحدثهم فشعر بالقلق بل واليأس مما أفصح عنه أصدقاؤه وما تأكد منه ، ولكنه كان يخفف عنهما في نفسه إجابته التي يظن بل يتأكد بتميزها . وجاء يوم إعلان النتيجة ، فيسرع إلى المعهد ويتطلع في أرتباك إلى لوحة الإعلانات فيرى أسمه في أوائل المقبولين ففرح فرحاً كثيراً ، وكان المقبولون حوالى مائتي متقدم لكل أقسام المعهد من الخمسمائة الذين تقدموا وأمتحنوا ودهش وتعجب لقبوله بالمعهد من غير تلك الواسطة المعروفة ولكنه يعرف بعد أن ألتحق بالدراسة من موظفة بإدارة المعهد يسألها في صراحة عن ذلك ، فتبتسم له وتقول : يبدو قد كنت من المتميزين وعندما أستفسرها ما تقول أسرت له أن رئيس المعاهد الفنية أوضح للمسئولين بالمعاهد عن يقينه بأن المعاهد تقبل من لهم واسطة وهو لايستطيع أن يمنعهم ، ولكنه يحثهم على أن يقبلوا ولا يرفضوا من يرون فيهم التفوق .
ويلتحق بالمعهد فيذهب إليه بسيارته التي أشتراها قبل إلتحاقه بالمعهد ساعده على شرائها أبوه وأمه ، فيسمع في مذياعها الأغاني المختلفة في بهجة وأستمتاع ، وينصت في دقة وشغف إلى كل ما يلقيه الأساتذة من دروس . وبعد أيام من بداية الدراسة بالمعهد يأتي وقت درس اللغة أو الحصة كما يطلق عليها فيقبل موظف بالمعهد يقول للطلاب أن يصطفوا في طابورين ، طابور لمن سيدرسون الإنجليزية ومثله لمن سيدرسون الفرنسية فحدث أمر غريب في ذلك اليوم يظن بل يتأكد من أن هذا الأمر لم يحدث في أي معهد أو كلية أو جامعة بل وفي أي بلد من البلاد فقد أحتشد الطلاب في طابور اللغة الإنجليزية ، وأنتظر هو في طابور اللغة الفرنسية حتى أنتظم الطلاب في أماكنهم ثم ألتفت خلفه فلم يرَ في الصف غيره ، وأندهش لما رآه دهشة غريبة ، فقد تقدم إلى دراسة الإنجليزية من المائتين الذي نجحوا وقبلوا بالمعهد مائة وتسعة وتسعون طالباً ، ولم ينجح من الخمسين الذين أمتحنوا في اللغة الفرنسية إلا هو ، فكانت تحضر من الإدارة العليا أو تنتسب إليها إمرأة راقية الخلق مهذبة النفس تسمى (خديجة) تعطيه الدرس الفرنسي في حجرة بالمعهد ليس بها غيرهما ، وكان هو يرى أن ما تلقيه عليه أو تشرحه له بل وما عليه أن يكتبه من موضوعات سهل عليه يحصل دائماً في إجابة أسئلتها على الدرجة النهائية ، ولكنها كانت قليلاً ما تضع درجة فقط أقل منها . فمثلما كان يفرح ويفخر بالدرجة النهائية كان يضيق بعض الشئ بتلك الدرجة التي تنتقصها ، ولا يعرف لماذا فيخجل من أن يسألها ، ولكنه يبحث في إجابته ليدرك أين أنقصت وهل هناك خطأ صغير فعله دون أن يدري أم أن بعض اساتذة كما يعرف لا يعطون الدرجة النهائية إلا صعوبة ولكنها في الحق لم تكن مثلهم . وكانت هذه الأستاذة الراقية طيبة الخلق أحياناً تحضر إلى الدرس ومعها لفافتان من الحلوى وما يطلق عليه بالفرنسية (البسكويت) فتقدم إليه لفافة منها فيمتنع خجلاً منه ، ولكنها تصر على ما تقدمه له فيخضع لإصرارها فإذا هما وهي تشرح له الدرس الذي يعرف مضمونه من قراءاته ، ويبتهج له يقضمان قطع الحلوى معاً كما لم يحدث مثل ذلك من قبل بين الطالب والأستاذة . وينتظم بالمعهد فلم يتغيب أو يتأخر عن محاضراته ، يستوعبها في دقة فإذا هو يحصل في كل المواد الدراسية على درجات متميزة بعضها هي الدرجات النهائية وبعضها أقل منها بقليل ، وكان المبرر لتفوقه أمورا مختلفة . وإن كانت مرتبطة وهي حبه لهذه الدراسة ودروسها وشغفه بهما وتركيزه في كل ما يلقيه الأساتذة منها ، وإطلاعه على الكتب والمراجع الكثيرة التي يمتلكها بمكتبه والتي يحصل منها على ما يزيده من معارف ، وشغفه بما يطلع عليه ، وثقافته التي أكتسبها من قراءاته قبل إلتحاقه بالمعهد ولا سيما في الآداب والفنون ، ثم إجادته اللغتين الإنجليزية والفرنسية اللتين يكتب بهما في إجاباته بعض المصطلحات التي تترجم ألفاظ اللغة العربية وتؤكدها والتي يعرف بل يثق في أن معظم الطلاب الذين في دفعته بل كلهم لا يكتبونها في أوراق إجاباتهم . وكان من أساتذته أستاذ يدرس علم النفس هو الدكتور (حسين) يشعر في حديثه عندما يتحدث وفي آرائه عندما يبديها بنزعته الأشتراكية التي لا يفصح عنها وإنما تبدو متوارية وكأنما هو يقتنع بها ويحتفظ بها في نفسه ، والأشتراكيون بهم ميزة بل ميزات جيدة فهم يتحيزون إلى العدل والمساواة ويكرهون العنصرية فلا يفرقون بين الدين والعرق وإنما يقدرون الإنسان بقيمته كانسان وليس بتلك المفاهيم العنصرية التي تكمن في نفوس تلك الفئة بل تبدو في سلوكهم وكأنما تتأصل فيهم والحق فهو لم يرَ في أساتذته مثلما يري في الدكتور حسين فمع طيبته التي تلوح على سلوكه أو تتوارى بينه ، فهو راقي الخصال والأخلاق ، وهو مثقف في آرائه ومعارفه ، ومثقف في حديثه وألفاظه التي يتحدث بها ، وكان مع ذلك جاداً يحترم محاضراته ويقدر قيمتها فيما يقول وعندما يلقيها ، فلا يمزح ذلك المزاح السخيف الذي يتندر به ببعض الأساتذة والذي يضطر الطلاب إلى أن يتجاوبوا له نفاقاً فيبتسمون ويضحكون . وكان هو يقدر هذا الدكتور تقديراً قوياً ، بل كان يرى منه أحياناً تقديراً له فكان يقول له بعد الأمتحانات عن معرفته ورقة اجابته على الرغم من سريتها ، ومما لاشك فيه أن ذلك لما يكتبه فيها من المصطلحات بالفرنسية أو بالإنجليزية والتي يقول بعضها في محاضراته فلا يفهمها الطلاب أما هو فيدونها ويضع معها من عنده ما يزيدها ولا يكتبها غيره من الطلاب في أوراق إجاباتهم . وفي عام من الأعوام يعطي الدكتور حسين لكل طالب بحثاً في علم النفس يلقيه على الطلاب وأمامه فيقرر له بحثاً قوياً صعباً ، وعندما يستفسره عن ذلك في أبتسامة منه يوضح له تأكده من قدرته عليه ، ويتركه آخر الطلاب ، وعندما جاء الوقت الذي يلقي فيه بحثه يشير إليه الدكتور حسين ويقدمه ويقول معهما تلك الجملة الشائعة التي أمتدحه بها : (وآخرها مسك) : فيشكره هو عليها في أدب وخجل ، ويبدو أن ذلك أغار بعض الطلاب ، ولاسيما عندما كان يؤكد بعض أساليب البحث بالمصطلحات الفرنسية أو الإنجليزية التي لا يفهمها الطلاب ، فيسأله طالب منهم يعرف ما بنفسه ، سؤالاً فيه نقاش يبدو فيه جهله ولم يكن يبتغى منه إلا معارضته فينبري الدكتور حسين فيؤكد ما يشرحه هو وما يقوله وينهر معارضه ذلك الطالب فيصمت ولا يقول شيئاً . وكانت الأمتحانات بالمعهد من جزئين : جزء تحريري ، وجزء شفوي ، أما الأمتحانات التحريرية فهو يكتب منها ما يستوعبه من منهج المادة التي يدرسها أستاذها ، ومن شرحه في محاضراته ثم يضيف إليهما هو من قراءاته ومعارفه ما يجودها ويرقيها ، أما الشفوية فكان ينفذها أثنان من الممتحنين ، أستاذ المادة ويرافقه أستاذ يأتي من خارج المعهد يسألان فيها الطالب أسئلة أغلبها في المنهج وما فيه من موضوعات ، وبعضها تنأى عنه حتى تبدو منهما أمكانيات الطالب الفنية وقدراته الشخصية . وكان هو يحب هذه الأمتحانات الشفوية ، ولا يخشى منها مثلما يخشى الكثيرون ، فهو يثق في أستطاعته على الإجابة على أي سؤال يسأل عنه ، ثم يعرف فيها على الفور من وجه الأستاذ رضاه عما يقول أو تأثيره عليه ، وعلى الرغم من ذلك فهو يعرف أن مثل هذه الأمتحانات ليست فيها من المستندات أو الأوراق التي توضح إجابة الطالب ، وإنما هي ورقة أمام الممتحن تدون عليها درجته ولا يضع عليها الممتحن ما يستحقه إلا إذا كان راقياً مخلصاً في عمله ، يخلو من التحيز والعصبية ثم يقدمها بعد ذلك إلى إدارة المعهد . فلا يرصدها المسئولون صحيحة إلا إذا كانوا مخلصين ويخلون مثله من التحيز والعصبية . وكان هو في هذه الأمتحانات الشفوية يطمح إلى الحصول على الدرجة النهائية ، وهو يرى أن كل طالب يتجه إلى الممتحنين بمفرده وفي أي وقت يبتغيه ، فإذا هو في ذلك يسعى إلى أمر أو أمرين بهما شئ من الحذق ، أولهما هو أن يتجه إلى الأمتحان آخر الطلاب وتعليل ذلك في رأيه هو أن بعض الممتحنين لا يعطون الطالب الدرجة النهائية إلا بصعوبة وهذا لمحتوى نفسي أو لمبدأ يقنعون به ، وكأن في دفعته من الطلاب من يرى فيهم بعض التميز أو التفوق ، فإذا اتجهوا قبله وأجابوا إجابة جيدة فقد يحصلون فقط على تسعين من المائة أو تسعة من عشرة من الدرجة النهائية ، أما إذا أتجه بعدهم وتحدث أفضل منهم فمما لاشك فيه سوف يعطيه الممتحن الدرجة النهائية ، أما الأمرالثاني فهو أكثر حذقاً يسعى فيه إلى شئ يعتقد بل يتأكد أن الكثيرين لا يفعلونه بل لا يفكرون فيه .
كان في ذلك هو الذي يجذب الممتحن إلى أن يسأله عما يرغب فيه هو حتى يستفيض فيه ، فإذا سأله سؤالاً يجيب عليه وينفذ مع إجابته إلى شئ أو موضوع يجعل الممتحن يشعر أو يعتقد أن أجابته فيما نفذ إليه قد ورطته فينظر إليه في تحفز أو توجس معتقداً أن تورطه هذا لن يستطيع الفرار منه أو أتى منه سهواً من غير أن يتروى ، ولا يعرف أن ما فعله هي حيلة منه حتى يسأله ما يرغب فيه فإذا الممتحن يستوضحه ما أستفاض فيه ويشرحه وكأنما يتحداه فيشرحه له ويذيله بالمصطلحات الفرنسية أو الإنجليزية التي تؤكده ، كان دائماً ما يفعل ذلك في الأمتحانات الشفوية فيرى حينذاك على وجه الممتحن أو الممتحنين أبتسامة واضحة ويلمح في إيماءاتهما وهزات رأسيهما ما ينم عن رضائهما وأستحسانهما بما أجاب وشرح فيثق من حصوله على الدرجة النهائية التي يضعها الممتحن على ورقته التي أمامه . هكذا كانت دراساته وأمتحاناته بالمعهد وبالقسم الذي التحق به فتفوق وتميز بين طلاب القسم فحصل في الثلاث سنوات الأولى على تقدير عام هو (الجيد جدا) ، بل كان حتى السنة الثالثة فيه أول دفعته التي تتكون معه من حوالي خمسة وثلاثين طالباً .
البقية في العدد القادم .