بقلم: محمد منسي قنديل
حتى في بداية حياتي في القراءة لم تعجبني روايات جرجي زيدان، ورغم ذلك ولشدة ولعي بالتاريخ فقد قرأتها كلها، كنت في حاجة لمعرفة الوقائع بعيدا عن كتب المقررات الدراسية، ولم أكن قد عرفت الطريق بعد للمؤلفات التاريخية الرصينة، لذلك فقد رضيت بالحيل الروائية الساذجة التي كان زيدان يقوم بها، قصة غرامية بائسة في مقدمة الصورة، بينما تبقى الشخصيات التاريخية في المؤخرة، على حالتها الخام دون تغير او تفسير، ادركت بعدها أن هذا كان مقصودا، كان يدرك أنه يلعب في منطقة خطرة، لا يريد أن تسبب له المزيد من المشاكل، كان مسيحيا لبنانيا اختار الاقامة في مصر، والتخصص في أعادة كتابة التاريخ الاسلامي، مما لاشك فيه أنه كان رجلا طليعيا، ومفكرا لغويا، وعاشق للثقافة العربية، لكنه يدرك جيدا عاقبة ما يقوم به، لذلك سار على حافة الزجاج في حذر شديد، ومع ذلك لم يسلم من الهجوم، ووصفه البعض بأنه عميل للمستشرقين، يشاركهم في نشر السموم ضد الاسلام، ولكن سلوك الرجل الذي أنشأ “دار الهلال” كان أبعد ما يكون عن ذلك، وادخل نوعا جديدا من الأدب لم يكن موجودا في اللغة العربية، لقد نشأ في عصر كانت الرواية التاريخية التي تأتي مترجمة من الغرب هي السائدة، ومن خلال الروايات السبعة عشر التي كتبها كان يريد ان تكون تعبيرا عن بزوغ القومية العربية كما فعلت الروايات في بعث القومية الأوربية، ومساهمتها في بحث كل بلد أوربي عن تاريخه الخاص، وقد ارخ جورج لوكاش لنشوء هذا النوع من الروايات مع نهاية عصر نابليون بونابرت في عندما الف سير والتر سكوت رواية “ويفرلي”، وكان واضحا تأثر زيدان بأسلوبه، فهو مثله يضع الشخصيات التاريخية في الصف الثاني، بينما يعطي الأولوية للشخصيات الخيالية.
ولكن الرواية العربية لم تستطع أن تتخلص من بصمة جورجي زيدان بسهولة، ظل اسلوبه ممتدا للجيل الذي تلاه، لم يثر عليه إلا الذين تركوا التاريخ العربي بأكمله والتفتوا إلى جانب آخر من التاريخ، جاء نجيب محفوظ محملا بمشروعه الخاص، كان يريد أن يعيد كتابة التاريخ المصري بأكمله في سلسلة من الروايات، متأثرا في ذلك بالكانب الفرنسي اسكندر توماس الأب الذي كتب جانبا كبيرا من تاريخ الثورة الفرنسية، كان دوماس واناتول فرانس وستندال قد تتبعوا دورة التاريخ القاسية بما فيها من عصور الارهاب الدماء، من لحظة سقوط الباستيل واعدام الملك وصعود نابليون حتى عودة الملكية مرة أخرى، ولكن دوماس الأب ورغم انتاجه الغزير لم يكن مؤلفا اصيلا، كانت له ورشته الخاصة التي يعمل بها عشرات من الادباء الشبان، وكان في ايامه الأخيرة يكتفي بالإرشادات واجراء التصليحات النهائية على النص قبل أن يضع عليه اسمه، لذا كان هناك تفاوتا كبيرا في المستوى الروائي لديه، هناك روايات تحتوى على فصول رائعة، وبعضها لا تعدو إلا مزيجا من الحركة والمغامرات التافهة، ولكن نجيب محفوظ بدأبه وموهبته واصراره كان ورشة في حد ذاته، كان كاتبا اصيلا، وبعد أن كتب ثلاث روايات في التاريخ الفرعوني، وجد نفسه مهيئا ليدخل مرحلة جديدة ويكتب سلسلة أخرى من الروايات الواقعية، هي التي أخذته بعيدا عن الكتاب التقليديين في ذلك العهد أمثال فريد أبوحديد وسعيد العريان وجودة السحار، ادرك أنه لن يستطيع أن يكمل مغامرته وهو يتعرض لمرحلة من التاريخ يسودها نوع من القدسية المتزمتة، وهذه هي معضلة الكتابة في التاريخ العربي والإسلامي، هناك مجموعة من التهم الجاهزة والثابتة توجه لكل من يتعرض للشخصيات الدينية، وقديما كان يمكن الاكتفاء بتوجيه النقد وابداء بعض الغضب، اما الآن وفي ظل محاكم التفتيش في الضمائر فالسجن في الانتظار، لقد وجه نجيب محفوظ انظاره بعيدا عن هذا المعترك الديني وذهب إلى وثنيات الزمن الجميل، إلى العصر الفرعوني، ومن الرواية الأولى “عبث الاقدار” وضع شخصياته التاريخية في المقدمة، لم يكتف بان يكون التاريخ مجرد ديكور وازياء، في روايته كفاح طيبة عن مصر القديمة وهي تسعى للخلاص من نير احتلال الهكسوس، وعن البطل احمس الذي قاد شعبها للحرية، كان نجيب محفوظ يمتلك القدرة على التنبؤ والرؤية عبر الزمن، صدرت الرواية عام 1944بعد أن قضت مصر 68 عاما تحت الاحتلال البريطاني، وقد فشلت ثورتها في عام 19 دون ان تجد فرصة للخلاص، وجاءت الرواية خليطا من الحلم والنبوءة، حلم ظهور المخلص ونبوءة بزوال الاحتلال، وهو أمر لم يتحقق إلا بعد 12 عاما كاملة، وقد احست الدولة بأهمية هذه الرواية فقررتها لعدد من السنوات ضمن االمناهج الدراسية، ولكن نجيب محفوظ كان قد اصاب، ربما دون ان يدري، جوهر الرواية التاريخية وهدفها، فليس مهمة هذه الرواية الغوص وراء حكايات الماضي القديمة بقدر ما تسعى لتهيئة الافكار لميلاد مستقبل جديد، مصير لم يأخذ طريقه للتشكل بعد، ومحاولة اكتشاف القوة الدافعة من خلال السلوك الانساني للجماعة التي يعيش الكاتب بينها، فهي شكل أدبي لا يكتفي بنقل شريحة من الواقع بما فيه من شخصيات يستغل فيها الكاتب خبرته بالحياة، لكنه في الرواية التاريخية يقدم المعرفة والخيال فضلا عن الخبرة، يخلق واقعا غير ثابت ومستقر يتخطى به الزمن ويعيد بعثه من جديد، ومهمة الرواية التاريخية الأهم هي استخلاص فردية الانسان من خلال مجموع كتلة التاريخ، وحتى عندما يضع شخصياته في مكان وزمن متخيلين، فهو يجسد بعضا من ملامح الصراع الموجودة في عصره.
ولكن مهما كان اقتراب الروائي من الحقيقة التاريخية فهو في حاجة إلى ابطال خياليين وإلى حبكة متخيلة؟ لا يمكنه بالطبع تغير الحقائق التاريخية الكبرى، حتى ولو لم يكن يؤمن بحدوثها، لأنه يتحدث من خلال التاريخ المشترك بينه وبين الجماعة التي يعيش بينها، يسعى للتواصل معها، وليس إلى تعريتها من تاريخها، كما أنه لابد من استيعاب الب المتخيل وعدم خروجه عن التزامات عصره، ربما يتمكن الروائي من إعادة ترتيب التفاصيل القديمة، وإعادة توزيع الأدوار، ووضع تفسيرات جديدة لها، وبناء المشاهد، بحيث يكتسي النص بثوب تاريخي، ولكن مضمونه العميق هو وحدة التجربة الانسانية التي تتجاوز المكان والزمان لتعبر عن جوهر الفرد الانسان.
لقد احسن كتاب الرواية المعاصرون في مصر حين ابتعدوا عن المواطن الخلافية في التاريخ، ابتعدوا عن كل ماهو مقدس، حتى لا يثور الجدل والاعتراضات في ظل روح التعصب التي تسود هذه الايام، و سعوا لاكتشاف التاريخ المصري الغني بالأحداث، ونحن أكثر الكتاب في العالم العربي وربما من اكثر كتاب العالم حظا، لأننا نمتلك هذا التاريخ المتصل بما فيها من طبقات الحضارة، طبقة من الحضارة الفرعونية عليها طبقة من التاريخ الهيليني والروماني ، وفوقهما طبقة من التاريخ المسيحي ثم طبقة أخيرة علوية من التاريخ العربي والاسلامي، كل هذا موجود ومتاحة ومليء بالتفاصيل الغنية والمدهشة.