بقلم: د. خالد التوزاني
بداية نؤكد انتماء ديوان “نايات العشق” للشاعر والناقد أمجد مجدوب رشيد لنمط من الكتابة الشعرية التي تتأسس على الحرق ، حيث ألم الكتابة ووجع الحنين إلى الأصل، تتحول إلى التذاذ بالاحتراق وعذوبة العذاب في سبيل بلوغ حضرة من نحب.
سِرّ الكأس في العتبة
يُمَثِّلُ عنوان القصيدة باعتباره عتبة أولى لولوج النص الرئيس خطابا رمزيا يَدَّخِرُ مخزونا وافرا من “التأويلات التي تحمل كمًّا من الأفكار والمعاني ذات الصلة الوثيقة بالحمولة الدلالية للنص وجمالياته”، وهو أيضا “المؤشر الإعلامي الأول الذي يواجه المتلقي، والمفتاح الأساسي للولوج إلى أغوار النص العميقة بقصد استنطاقها وتأويلها ، ومن ثم فإن تأمل العنوان قد يفضي إلى معاني عميقة تخدم فهم النص الرئيس، وتوجه مسار تداوله وإعادة إنتاجه بفعل محاولات القراءة المتعددة، كما أن العنوان الجيد يمنحُ للقارئ فرصة “التهيؤ النفسي” ، ويوجِّهُ ذهنه نحو مجالات معرفية وخبرات ثقافية سابقة لديه، إن العنوان “بإشاراته الدالة ورموزه مُحرِّكٌ فاعل لتنشيط الخطاطة السيكولوجية لدى القارئ” ، حيث يستحضر المتلقي دلالات الكأس وصلتها بالسّر انطلاقا من الثقافة العربية الإسلامية باعتبارها المجال الذي ينتمي إليه الشاعر والمتلقي.
يُطاف عليهم بكأس عجيبة:
الكأس مؤنثة، وردت في القرآن الكريم ست مرات، منها قوله تعالى: “يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَعِينٍ بَيضَاءَ لَذَّةٍ للشَّارِبينَ” ، وللمؤنث في التجربة الصوفية مذاق خاص ونكهة متميزة وخاصة في شعر المتصوفة، حيث “تنكشف الأنثى بوصفها تجسدا للحب الإلهي الذي يحيل إلى تجلي العلو في الصورة الفيزيائية المحسة” . ومعنى الكأس في معجم لسان العرب لابن منظور: “الزجاجة مادام فيها خمرٌ، فإذا لم يكن فيها خمر، فهي قدحٌ” ، و” يُستعار الكأس في جميع ضروب المكاره، كقولهم: سقاهُ كأساً من الذل، وكأساً من الحب والفرقة والموت” ، وللكأس عند المتصوفة معاني جليلة، منها أن “الكأس هو قلب الشيخ، فقلوب الشيوخ العارفين كيسانٌ لهذه الخمرة، يسقونها لمن صحِبهم وأحبهم” ، والكأس أيضا “مغرفة الحق يغرف بها من ذلك الشراب الطهور المحض الصافي لمن شاء من عباده المخصوصين” ، وإذا كان الشراب مرتبطا بالخمر ومؤديا لحالة السُّكْر، فإن الخمر في السياق الصوفي يتحوّل إلى رمز يشير إلى “خمرة المحبة الإلهية، تُسقى بيد الحق”، ولعل من روائع القصائد الصوفية في هذا الباب نستحضر خمرية ابن الفارض.
وبالعودة إلى قصيدة “كأس السر” للشاعر أمجد مجدوب رشيد نجد أنها كأسٌ تُحْرِق، وتذوب فيها الشمس، ويشربها العشق حرفا، وتبرق بها مآقي الموت، وتسلُبُ أخيلة الشاعر، ثم أخيرا هي الكأس التي أسكرت الكون، حيث يلاحظ توظيف “الكأس” بمدلولات تشترك في الاحتراق والمعاناة، وتؤدي مع توالي النكبات إلى استعذاب للعذاب والتذاذ بالألم، خاصة وأن دلالات الكأس مرتبطة بشرب الخمر، وهذا الأخير موصل لحالة السكر، وإذا كان المرء يشعر بالألم وهو في حالة الصحو، فكيف بحالة السّكر وهي أجدر بالأنين، كما قيل :
كَفَاكَ بأنَّ الصَّحْوَ أَوْجَدَ أنَّتِي
فَكَيْفَ بِحَالِ السُّكْرِ والسُّكْرُ أَجْدَرُ
وهكذا، ترتبط دلالة الكأس بما هو متعارف عليه في الاستعمال اللغوي الشائع لهذه الأداة، وهي الشرب أو الخمر، وعموما كل أمر صعب مُحرق، كما أن الصبر على الاحتراق راجع لعِظَمِ المحبة أي العشق الإلهي، حيث “يوحّد العشق الصوفي ومكابدة الشوق رمز الكأس لتحقق المكاشفة” ، لأن “الكأس الذي تُشرب منه هذه الخمرة، فهو كناية عن سطوع أنوار التجلي على القلوب عند هيجان المحبة” ، وعلى حسب نوع الشراب تكون طبيعة السكر ونوع الصحو، كما قيل :
واعلَم أنَّ الصَّحْوَ على حَسَبِ السُّكْرِ
فمن كان سُكْرُهُ بِحَقٍّ كان صَحْوُهُ بِحَقّ
ولعل نوع الشراب في كأس الشاعر أمجد مجدوب رشيد، يفصح عنه مضمون كلمة “السّر”، فعلى الرغم من أنه شراب محرق ومر المذاق إلا أن عاقبته محمودة مادام موصلا لرؤية المعشوق، قال الشاعر أمجد مجدوب رشيد في افتتاح قصيدة “كأس السر” :
كَأْسٌ أُخْرى
فَنُحْرَقْ
كأسٌ أُخْرى
فَنَراهُ
وواضح كذلك ارتباط كأس الشاعر أمجد بالسُّكْر، كما تفصح عن ذلك نهاية القصيدة :
الكأس التي
أسْكَرت الكونَ
أنت !
حيث يصل شاعرنا أمجد بعد تجرّع “السّر” كأسا بعد أخرى، إلى درجة يتساوى فيها السكر مع الصحو، ليعيش الشاعر حالة وجد لا يرى فيها غير مطلوبه ومرغوبه، كما قيل :
إِذَا طلَعَ الصَّبَاحُ لنَجْمِ راحٍ
تَسَاوى فِيهِ سَكْـرانٌ وصَاحِ
حيث تؤدي كثرة الشرب من كأس السر ودوام الارتواء بخمرتها أي التضلع من الأسرار الإلهية
إلى بلوغ الصحو الحقيقي، في إشارةٍ خفية إلى الارتقاء في مقامات القرب من المحبوب، وقد جاء في الرسالة القشيرية ما يؤكد هذا المعراج الروحي في الارتقاء: “فصاحب الذوق مُتَسَاكِر، وصاحب الشُّرب سكران، وصاحب الرّي صاح، ومَنْ قَوِيَ حُبُّه تَسَرمَد شُربه، فإذا دامت به تلك الصِّفة، لم يورّثه الشُّرب سُكراً، فكان صاحيا بالحقّ، فانيا عن كُلّ حَظّ، لم يتأثّر بما يرد عليه” ، ولم يتوقف أبدا عن الشُّرب، بل يصير الشّرب له غذاء وحياة، إذ يبلغ درجة الرؤيا المستمرة للمحبوب، ولذلك عَبّر الشاعر أمجد مجدوب رشيد عن هِمَّةٍ عالية في بلوغ هذا المقام الرفيع، من خلال فِعل الحرقِ أي المجاهدة والتصبّر، فقال واصفا تجربته الروحية هذه:
كَأْسٌ أُخْرى
فَنُحْرَقْ
كأسٌ أُخْرى
فَنَراهُ
لتغدو رؤية المحبوب غاية أسمى تستحق أهوال الشرب، يراه فلا يغيب عنه، ويذكره فلا ينساه، وفي هذا المعنى أنشد العُشَّاق :
عَجِبْتُ لِمَنْ يَقولُ ذَكرتُ ربي
فهلْ أنسَى فأذكرُ ما نسيتُ؟
شَربتُ الحُبَّ كأساً بعد كأسٍ
فما نفد الشرابُ وما رويت
إذ “العشق الحقيقي هو عشق النفوس والأرواح لخالقها المُمِدِّ لها بسائر النِّعَمِ الحسية والمعنوية” ، ودلالة العشق هذه واضحة في ديوان “نايات العشق” للشاعر أمجد مجدوب رشيد، وكذلك في بعض أعماله الإبداعية الأخرى مثل “نسمات” وهي قصائد ومقطوعات في الحب الإلهي وفي الحب المحمدي ، حيث يظهر بجلاء النَّفَسُ الصوفي في كثير من أعمال هذا الشاعر، سواء في شعره أم في دراساته النقدية ، حيث يحاول تتبع إشراقات التصوف في الشعر، ولعل هذا المنحى المنهجي عند الشاعر أمجد مجدوب رشيد راجع لعمق ثقافته العربية الإسلامية وتعدد قراءاته في التراث الصوفي.