بقلم: شريف رفعت
يقف التوأمان أمام المرآة في حجرتهما المتواضعة، يصفف هو شعره بينما تتأكد هي أن ملابسها رغم رقة حالها مهندمة، تقول بسخريتها اللاذعة الغير مباشرة:
ـ و الله شكلنا هذا لا يليق بالفقر، نبدو مثل أولاد الناس.
سرته ملحوظتها الإيجابية هذه و التي تعكس واقع كونه وسيما بشعره الناعم الكثيف و قامته الفارعة و كونها جميلة بتقاطيعها الجذابة و قوامها المتناسق. نادرا ما تقول هي أشياء إيجابية عن حالتهما، فهي دائمة التعليق على حياتهما بطريقة ساخرة رافضة، يتذكر عندما قال لها يوما:
ـ زميلة لي في الكلية شاهدتنا معا فسألتني إذا كنا توأمين.
ردت عليه بسرعة:
ـ كان مفروضا أن تقول لها أننا ثلاثة توائم.
ـ ثلاثة؟
ـ نعم ، أنا و أنت و الفقر.
أمس عندما ذكر لها في لحظة صفاء زميلة له في الكلية و عن الصداقة التي نشأت بينهما و كيف يشعر أنها تتطور إلى ما هو أكثر من صداقة، قالت له:
ـ أحذر أن تقع في غرامها.
سألها:
ـ نفترض أني أحبها ما الخطأ في ذلك.
أجابت:
ـ الناس مثلنا ليس من المفروض أن يحبوا.
سألها محتجا:
ـ مثلنا؟ من نحن؟ و لماذا لا نحب؟ ألسنا آدميين؟
قالت له بسخريتها اللازعة:
ـ نحن لا نجد ما نأكله. فكيف نحب؟
المؤلم في الموضوع أنه وجد كلامها منطقي.
يعيشان مع أمهما و جدتهما في شقة متواضعة، في الواقع متواضعة فيها مبالغة فهي شقة فقيرة بجدارة، حجرتين تنام الأم و الجدة في إحداهما و ينام التوأمان في الأخرى على سريرين بائسين، صالة صغيرة تستخدم في الأكل و المذاكرة و أحد أركانها به ما يعتبر مطبخا صغيرا، ثم دورة مياه متداعية، رغم ذلك تعتبر هذه الشقة طفرة بالنسبة لسكنهما السابق و الذي كان حجرة وحيدة لها حمام و دورة مياه مشتركة مع باقي سكان المكان. الأم تعمل، وظيفتها بسيطة، مرتبها منها هو كل دخل الأسرة، يكفي بالكاد للطعام و المصاريف الضرورية و أحيانا لا يكفي، الأب ارتاح و مات منذ سنين و لم يترك لهم شيئا. الجدة كانت تخدم في البيوت عندما كانت قادرة، الآن و بسبب كبر السن و المرض تمضي أغلب الوقت في فراشها.
المواجهة المشتركة للفقر و الحاجة و البؤس عمّقَ المشاعر الأخوية بين التوأمين، هناك صداقة جميلة بينهما مبنية على تعايشهما مع واقعهما القاسي. الولد طالب في كلية العلوم أمامه سنة و يتخرج، بينما أخته طالبة في كلية الهندسة. إلتحاقهما بالكليتين كان إنجازا رائعا جعل الأم و الجدة تفخران بهما فقد تم دون دروس خصوصية حيث لا تملك الأسرة ثمنها.
فقرهما شكل حياتهما، علمهما العملية في التفكير و الحرص في التصرفات و الصبر على المعاناة و عدم الشكوى و إيثار الأسرة على النفس و الاهتمام بدراستهما حيث التعليم و سيلتهما الوحيدة للخلاص، أثناء ثورة يناير عزم الأخ على الخروج و الاشتراك في المظاهرات، أخته منعته، بطريقتها العملية في التفكير أخبرته أنه إذا أصيب في المظاهرات أو قبض عليه فسيؤثر ذلك على دراسته و يؤخر تخرجه و توظفه و بالتالي يؤخر مقدرته على مساعدة أسرته ماديا، كالمعتاد وجد كلامها منطقيا و لم يشترك في الثورة.
بينما يجلس في الصالة يؤدي واجباته الدراسية جاءت أخته من الخارج، قالت له بطريقة تقريرية و بوجه خال من التعبير:
ـ الست سميرة قابلتني، طلبت مني أن أخبر جدتي أنها ستحضر لزيارتها مساء اليوم.
يعرف هو المقصود بهذه الزيارة، الست سميرة آخر من عملت عندهم جدته كخادمة، رغم مرور حوالي عشرين عاما على انتهاء خدمتها إلا أن الست سميرة تحرص على زيارتهم مرتين أو ثلاثة في السنة في الغالب في شهر رمضان و العيدين، تعود جدتهما، تتحدث معها عن الأيام الخوالي، ثم تمنحها مبلغا من المال و تنصرف بينما الجدة لا تكف عن الدعاء لها. التوأمان يكرهان هذه الزيارات، تذكرهما أن جدتهما في زمن مضى كانت تخدم في البيوت، تعَمِق احساسهما بفقر الأسرة بحاجتها للصدقة و لعطف الغرباء، في الواقع أقسى ما يعانيان منه هو هذا السرور الخفي في أعماقهما لأن هناك نقودا تتلقاها الأسرة، صدقة تعينها على مجابهة الفقر، هذا السرور الخفي يطعن كبرياءهما، لكنهما يجب أن يعيشا أو بالأصح يتعايشا مع هذه المشاعر المتضاربة.
دخلت الأخت حجرة نوم الجدة، نظرت لها و هي جالسة في فراشها مغمضة العينين نصف نائمة، شعرت بعطف و حب جارفين نحوها، هذه المرأة العجوز الضئيلة ترى كم عانت من العمل كخادمة. هل أساء مستخدميها معاملتها، كم ضحت كي تتعلم ابنتها و تحصل على الشهادة المتوسطة التي تعمل بها الآن في وظيفتها البائسة، كم هي لحظات السعادة التي مرت بها أثناء حياتها. أخبرتها برقة عن الزيارة القادمة، بدأت الجدة في الدعاء للضيفة المتوَقـَعة.
في المساء حضرت الست سميرة، كلها ابتسامات و حبور، أثنت على التوأمين و أوصتهما بالاهتمام بدراستهما و شجعتهما بعبارات مناسبة. دخلت على الجدة في حجرة نومها، تبادلا السلامات و القبلات، جلست بجوارها على الفراش، تحدثا معا عن الأيام الخوالي، سألتها الجدة عن أبنائها و أحفادها و أقاربها الذين عرفتهم أثناء خدمتها. الست سميرة أبدت اهتماما بأحوال الجدة و أوصتها بالعناية بصحتها.
التوأمان رغم جلوسهما للإستذكار لم يستطيعا أن يمنعا نفسهما من الإنصات للحديث، عندما حان و قت انصرافها كالمعتاد أعطت الست سميرة للجدة مبلغا من المال و كررت توصيتها لها بالاهتمام بصحتها، انصرفت و على وجهها ابتسامة رضا تشيعها دعوات الجدة. في طريقها للخارج مرت بالتوأمين اللذين رسما على وجهيهما ابتسامة مجاملة مؤدبة باردة.
جلس التوأمان يحاولان الاستذكار و إن كانت الزيارة و تبعاتها تستحوذ على الكثير من أفكارهما.
في التاسعة عادت الأم بعد يوم عمل شاق طويل، أخبرها ابنها أن الست سميرة حضرت لزيارة الجدة، انفرجت أساريرها المرهقة و قالت:
ـ فليباركها الله، إمرأة خَيِرة، تحفظ الود و تصون العـِـشْرة.
لم يعلق التوأمان على ملاحظة الأم و التي بدت لهما للأسف مفهومة و منطقية.
تأخر الوقت، حان ميعاد ذهاب التوأمين لفراشيهما، عَلَ أفكارهما المختلطة من مواد دراسية و زيارة الصدقة و الشعور بالبؤس تهجع هي الأخرى للنوم. بعد لحظة تفكير قال الولد:
ـ بعد تخرجي، عندما أعمل أول ما سأفعله بمرتبي أن أرد للست سميرة المبالغ التي جادت بها على جدتنا عبر السنين.
لحظة سكون احتوت التوأمين، كان بانتظار أن تـُسَفِه أخته ما قاله، أن تقول له “هل تضمن أن تجد عملا بعد تخرجك؟ كم سيكون مرتبك؟ هل تضمن أن يبقى من مرتبك شيء بعد المساهمة في تلبية احتياجات الأسرة الضرورية؟ و هل تعرف المبلغ الذي تصدقت به علينا الست سميرة عبر السنين؟”. لكن أخته لم تعلق، أخيرا و هما في فراشيهما قالت:
ـ من الأنسب أيضا بالإضافة لإعادتنا ما تصدقت به علينا أن نشتري لها هدية مناسبة نظير كرمها، فلا تشعر أنها ذات فضل علينا.
نام التوأمان و على وجهيهما ابتسامة رضا.