بقلم: إدوار ثابت
بقية العدد الماضي الجزء الثالث
يقول طرفة بن العبد في معلقته :
لخولة اطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
فالشاعر في صراع داخلي بين أشتياقه لمعشوقته (خولة) وبين هجرتها وتركها للمكان الذي كانت تسكن به وكانت نساء العرب قديماً يرسمن على أكفهن وشماً يمحى قليلاً مع عملهن فتبدو منه بقاياه وكانت القبائل تسكن مكاناً لا تلبث بعد وقت طويل أو قصير أن تتركه إلى مكان غيره فإذا هو اطلال بها آثار تتناثر فيها أشياؤها ، وإذا هذه الأطلال تلوح للشاعر كبقايا الوشم الباهتة التي تظل على أكف النساء . وفي العصر العباسي يقول أبو تمام :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يعشقه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
فهو في صراع داخلي بينه وبين أول حب قد مسَّه ، يقرر فيه أن الإنسان قد يحب أكثر من مرة ، ولكن حبه الحقيقي هو الحب الأول ، وأن الإنسان مهما يرى ويعشق يظل دائماً حنينه إلى هذا الحب . وهذا الرأى يتناقض ما يقره إحسان عبد القدوس في روايته (الوسادة الخالية) عنندما يوضح في بدايتها أن الحب الأول كالوهم يعتقده الكثيرون ، ولكن المرء قد يحب بعده فيظل ذلك الحب الأخير هو الذي يتملكه حينذاك . يقول : في حياة كل منا وهم جميل أسمه الحب الأول ، لا تصدق هذا الوهم .. أن حبك الأول هو حبك الأخير وليس غريباً أن يتناقض الرأيان فكل أديب أو شاعر له الحرية فيما يعتقد ، ومع ذلك فمن الواقع أن الحب القوي ليس ضرورياً أن يكون هو الأول فقد يتعرض الإنسان بعده إلى حب أقوى منه .. أما تأثير العشق الأول فالحنين إليه هو حنين العاشق دائماً إلى فترة الصبا وما بها من عاطفة هي العاطفة الأولى التي تهز القلب الفطري وما بها من مشاعر رقيقة لم يشعر بها الفتى من قبل . وعندما يقول أبو نواس :
أفر إليك منك وأين إلا إليك يفر منك المستجير
فهو في صراع داخلي بينه وبين معشوقته التي يرغب في أن يهرب منها واشتياقه الذي يسيطر عليه فلا يرى فيهما إلا فراره وهروبه إليها . وفي العصر الأموي عندما يقول جميل بن معمر الشاعر العذري في معشوقته بثينة :
الا أنها ليست تجود لذى الهوى
بل البخل منها شيمة وخلائق .
فهو في صراع داخلي بين حبه وبين بخلها وضنَّها عليه فإذا هذا البخل وذلك الضن في خصالها وسلوكها. ومن العصر الحديث إذا كان أحمد شوقي قد قال : مضناك جفاه مرقده وبكاه ورحَّم عودُه ، فهو ولابد قد كان في صراع داخلي بينه وبين معشوقته التي عذبته وأضنته حتى أضحى مخدعه ثقيلا خشناً عليه فاستاء له وتأثر به من يأتون لرؤيته . وإذا كان أحمد رامي قد قال :
أغار من نسمة الجنوب على محياك يا حبيبي ، فهو في صراع بينه وبين غيرته على محبوبته حتى من النسمة التي تأتي من الجنوب ، وهي الجهة التي لا يهب منها النسيم ، فإذا أهبت وهذا أمر ليس من المحتمل فهو يغار منها إذا مست وجه محبوبته . وقد تقول بعد كل هذا : ما بالك تعرض الصراع في أشعار كلها من الغزل ، فأين الصراع في شعر الهجاء والمدح والفخر بل أين هو فيمن يضمن شعره حكماً أو يتغنى فيه بملامح الطبيعة وجمالها . ولكن إذا نظرت بدقة في هذه الأنماط ستلحظ فيها صراعاً . فالهجاء يندفع إليه الشاعر لصراع يثور في نفسه بينه وبين من يهجوه ينفس به عما يشعر به من كره نحوه أما الفخر فهو يصدر من باطنه نتيجة إحساسه بالثقة الزائدة أو بالكبرياء الذي قد يكون غروراً مثلما يقول المتنبي وهو من أشهر من كتب فيه : الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
واسمعت كلم اتي من به صمم
أو عندما يقول :
وما الدهر الا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً
وقد يكون الفخر نتيجة معارضة الشاعر لمن يقللون من شأنه أو يفضلون غيره عنه – والتأكيد على فضائل يراها في نفسه أو التأكيد على تفوقه على غيره من الشعراء مثلما يقول أبو العلاء المعري :
أنا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف واقدام وحزم ونائل تعد ذنوبي عند قوم كثيرة
ولا ذنب لي إلا العلا والفضائل وقد ساد ذكري في البلاد فمن لهم
باخفاء شمس ضوءها متكامل وأني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
والشعر الذي يتضمن الحكمة فيه صراع داخلي يثور في نفس الشاعر بينه وبين أحداث الزمان وسلوك الغير وتجربته الإنسانية وخبراته التي عاشها يبرز في كل ذلك تلك الحكم التي يحويها شعره .والذي يتغنى بالطبيعة بنفسه تفريغ عن ضيقه بمتعة يتمثلها في الطبيعة وما حولها فيختار بها الألفاظ التي تبرز أعجابه وحبه لها مثلما يقول البحتري في قصيدة الربيع:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
أما المدح ففيه صراع يثور في نفس الشاعر ليوضح الخصال التي يراها فيمن يمدحه ، ولينتقي الألفاظ التي تبرز هذه الخصال . والهدف منه له مبررات مختلفة ومتشابهة معاً ، فقد يسعى إليه الشاعر لمنافسة بينه وبين غيره ممن يمدحون من يمدحونه أو لمعارضة من يهاجمونه . وقد يكون لرغبة في مكأفأة مادية أو وضعية ثم قد يكون هدفاً سياسياً يرتبط بالدولة والحكام مثلما كان المتنبي يمدح سيف الدولة فيقول في قصيدة من قصائده :
مالي أكتم حباً قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
ويقول في غيرها :
يكلف سيف الدولة الجيش همه
وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
ومثلما كان الشعراء وكتاب الأغاني والمطربون يمدحون عبد الناصر في فترة الستينات من القرن العشرين وفي ذلك الكثير فالشاعر أو الكاتب في كل ذلك يكون بين أمرين أو ثلاثة ، فيرى أن من يمدحه يستحق المدح أو يعتقده فيه فيكتب مستمتعاً فخوراً بما يكتب وقد يكون مخدوعاً فيما يقوله فيكتب من غير أن يدري أو يفهم ثم قد يكون منافقاً متملقاً أو مضطراً إليهما وهذان نمطان، أولهما يسعى إلى النفاق راضياً مغتبطاً لا يشعر بصراع يثور في نفسه بل يتمثل فيه صراعاً يصارعه حتى يفوز بما يهدف إليه ، أما الثاني فصراعه يكون بين أقتناعه بالحقيقة وبين أضطراره إلى النفاق فيفوز الأضطرار ويطغى على الأقناع . وينطبق ذلك على الأغاني الوطنية التي تذاع على الناس في الأوقات التي ترتبط بها وفي الأحداث التي تمر بها الدولة وإن أختلفت أو تشابهت الأهداف .
ولن نبالغ إذا قلنا أن الموسيقى بها صراع ، وهو ينشأ عند التأليف وعند العزف فأثناء التأليف في الموسيقى الغربية وعندما يكتب الموسيقار مقطوعته الموسيقية يلتزم فيها بقواعد الموسيقى ، فيحافظ على الإيقاع والسرعة والبطء والقوة والهدوء بين الآلات المختلفة التي يستخدمها لينسق التآلف في اللحن الذي يضعه فإذا هو في كل ذلك يثور في نفسه ذلك الصراع الذي يرغب فيه في أن يحقق ما يصبو إليه . أما عند العزف فينشأ الصراع بقائد الأوركسترا وبالعازفين للمحافظة على كل ما هو مدون بالنوتة الموسيقية من قواعد اللحن ومن الحوار الذي يضعه المؤلف بين الالات الموسيقية . أما الموسيقى الشرقية فلها مثل الموسيقى الغربية قواعدها الخاصة ، والصراع فيها يبدو مثلها عند التأليف والعزف للمحافظة على هذه القواعد وعلى ما باللحن من تشكيلات مختلفة – أما إذا وضع المؤلف اللحن لأغنية من الأغاني ، فهو يربط وينسق بين موسيقاه وبين ألفاظ الأغنية – ويزيد عليه في ذلك أو قبله كاتب الأغنية وبعده المطرب الذي يؤديها ، أما الكاتب فلابد وأن يكون قد ثار في نفسه هذا الصراع وهو يؤلفها – أما المطرب فيثور فيه وهو يسعى بغنائه إلى التوفيق بين اللحن الموضوع وألفاظ الأغنية للأفصاح عن المشاعر التي تحتويها .
وفن الأوبرا لا يخلو من مثل هذا الصراع في التأليف والأداء ، فالأوبرا مؤلف مسرحي درامي يمثل على المسرح ، تشترك فيه الموسيقى التي توضع لها ، والغناء الذي يكون حواراً يلقيه أفراد الفرقة شعراً أو عامياً – والصراع فيه داخلي يثور في نفس المؤلف عند كتابة موضوع الأوبرا – وعند الملحن وهو يضع لحنه – أما عند العرض فيبدو في أداء العازفين للموسيقى وفي أداء الممثلين لشخصيات القصة بحركاتهم وأصواتهم في قوتها وهدوئها وسرعتها وبطئها في تآلف مع اللحن الموضوع ومع المضمون الذي تحويه . وفن الباليه به مثل هذا الصراع ، فالباليه لفظ فرنسي Ballet هو موضوع درامي راقص يؤديه راقصون على المسرح يشكلون فيه بأجسامهم حركاتهم وقفزاتهم وبوجوههم لفتاتهم وإيماءاتهم بالتناسق على الموسيقى الموضوعة له – ويشترك في هذا العمل خمسة فروع رئيسية أو فنانون وهم كاتب القصة وواضع اللحن ومصمم الرقصات والفرقة الراقصة ، والفرقة الموسيقية – ومما لا شك فيه أن كل منهم يثور في نفسه صراع داخلي وهو يؤدي وينفذ ما عليه أن ينفذه . وهكذا في الرقص الشرقي ، وإن أختلف في مضمونه وفي الهدف منه عن فن الباليه وشكل الأداء فيه عنه ، ومع ذلك فيه صراع خاص بقواعده ، فالراقصة تهتز وتتهادى وتحرك أطرافها وأجزاء من جسمها بالتناسق مع اللحن الذي ترقص عليه تشتد فيه معها الفرقة الموسيقية في صراع بينهما لتحثها على تحقيق ما تفعله في رقصها باتقان .
وكذلك الفن التشكيلي به صراع خاص بمضمونه يثور في نفس الفنان لبرز عمله الفني فالفنان إذا رسم لوحة ما يكمن هذا الصراع الداخلي فيه بينه وبين رغبته في توضيح الشكل الذي يستهويه فيها والأنطباع الذي يرتضيه يستخدم في ذلك أسلوبه المميز الذي يضمنه ألوان اللوحة والمساحات والخطوط فيها والإضاءة والظلال وتنظيم عناصرها والمزج بينها فيبدو من كل ذلك محتواه الشعوري واللاشعوري وكوامنه الفكرية والنفسية ولايقل عن ذلك فن النحت فيما يثيره من صراع في نفس الفنان عندما ينشأ تمثالاً من خياله فهو يسعى بحرفيته وبجهده إلى يبرز شكل التمثال ووضعه وحركته التي تبدو عليه ولافتته وهيئته العامة الذي قد يوضح ما به من خصال تكمن فيه .
البقية في العدد القادم