بقلم: علي أبو دشيش
كل مكان يصل إليه نهر النيل هو مكان مصري من أرض مصر، عدا ذلك فهو ليس من أرض مصر، وهذا يدل على تقديسهم لهذا النهر الذي أمدهم بالحياة. هكذا قال الفراعنة عن النيل العظيم الذى اوهبهم الحياة
أطلق عليه المصري القديم “أترو” بمعنى النهر، ثم بعد ذلك أطلق عليه “أترو عا” بمعنى النهر العظيم، لما له من أثر كبير في شموخ وعظمة الحضارة المصرية القديمة، فعندما سلك نهر النيل مصر سلك مسلكا حضاريا، وأعطى لمصر شخصيتها الإقليمية وجعلها تأوي بمعنى الأرضين؛ أرض شروق الشمس، وأرض غروبها، ومن هنا عاش المصري القديم على ضفافه واحترف وامتهن الزراعة، التي سببت له الاستقرار ومن ثم بناء المساكن وتكوين أول مجمعات سكنية على ضفاف نهر النيل الخالد.
المقصود ب “وفاء النيل “ هو أن نهر النيل وفي للمصريين بالخير من طمي ومياه، لذلك قدسوا النيل وجعلوا له احتفالا كبيرا في شهر( بؤونة / أغسطس ) من كل عام، وهو الشهر الذي يأتي الفيضان محملا بالطمي والماء فيه، وكانوا يلقون عروسة من الخشب للنيل في حفل عظيم يتقدمه الملك وكبار رجال الدولة، دليلا منهم على العرفان بالجميل لهذا النيل العظيم.
واما عن أسطورة القاء فتاة فى النيل
ومن أهم الأساطير المرتبطة بعيد وفاء النيل، هي أن المصريين القدماء كانوا يقدمون للنيل “ الإله حعبي “ في عيده فتاة جميلة وكان يتم تزيينها وإلقائها في النيل كقربان له، وتتزوج الفتاة بالإله “حعبي” في العالم الآخر إلا أنه في إحدى السنين لم يبق من الفتيات سوى بنت الملك الجميلة فحزن الملك حزنا شديدا على ابنته، ولكن خادمتها أخفتها وصنعت عروسة من الخشب تشبهها، وفي الحفل ألقتها في النيل دون أن يتحقق أحد من الأمر، وبعد ذلك أعادتها إلى الملك الذي أصابه الحزن الشديد والمرض على فراق ابنته.
و من هنا، ووفقا للأسطورة، جرت العادة على إلقاء عروسة خشبية إلى إله الفيضان كل عام في عيد وفاء النيل، مؤكدا أنه لا يوجد نص صريح في التاريخ يروي أن المصري القديم كان يقدم قربانا بشريا “ عروس النيل “ احتفالا بوفاء النيل، ويعتقد أنها أسطورة نسجها الخيال المبدع للمصري القديم تقديرا منه لمكانة النيل، ورغم ذلك عاشت تلك الأسطورة في خيال ووجدان المصريين وتناولها الأدباء والكتاب والسينما، وما زالت تتردد حتى الآن كواقع.
وكان نهر النيل السبب في استقرار المصري القديم على ضفافه وعمله بالزراعة، حيث أصبح قادرا على إنتاج قوته، ثم انطلق إلى ميادين العلم والمعرفة والتقدم الهائل، ولذلك كان نهر النيل سببا مهما في هذه الحضارة العظيمة وبناء الأهرامات الشامخة وبقاءها حتى الآن، موضحا أنه لولا النيل لكانت مصر صحراء بلا نبات ولا ماء ولا استقرار، فالنيل جعل لمصر دورة زراعية كاملة وحول الأرض السوداء إلى أرض خضراء مثمرة.
وقدروا القدماء المصريين نهر النيل وأدركوا أهميته ولذلك قدسوا فيضانه وجعلوا له إله، وتخيلوه على هيئة رجل جسمه قوى وله صدر بارز وبطن ضخمة كرمز لإخصابه، موضحا أنه لذلك سميت مصر “تاوي” لأن النيل قسمها إلى أرض الشمال وأرض الجنوب، ولذلك فإن من أهم ألقاب الملك المصري “ نب تاوى “ وتعني سيد الأرضين الشمال والجنوب.
و أن نهر النيل ذكر في الحضارة المصرية القديمة كثيرا، وهناك العديد من النقوش والرسوم المصورة والقطع الأثرية التي تقدسه وموجودة بالمتحف المصري منها “أوستراكا مصور عليها المعبود حعبي وتمثال الملك خفرع الشهير الموجود عليه صورة “ سما تاوي” ومعناه موحد الأرضين ويقصد به النيل، إلى جانب المراكب التي كانت تستخدم للصيد والحرب والسفر ونقل الحجارة وغيرها، حيث كان النيل عاملا مهما في الدبلوماسية السياسية المصرية كوسيلة للنقل والترحال والتبادل الثقافي والحضاري بين مصر والدول الأخرى.
ويرجع الفضل للنيل والشمس والنبات في عقيدة البعث عند الموت لدى المصري القديم، حيث شاهد النيل يفيض ويغيض ثم يفيض من جديد والنبات ينمو ثم يموت ثم ينمو من جديد والشمس تشرق ثم تغرب ثم تشرق من جديد فأدرك المصري القديم بالبعث ما بعد الموت فكان سبب مهما في تشكيل وترسيخ العقيدة لديه.
واعتمدوا المصريين القدماء على النيل في حساب السنة الشمسية وبدأوها مع توافق شروق نجم الشعري اليمنية مع ظهور الفيضان، والشروق هنا يعني ظهور ذلك النجم في الأفق الشرقي مع الشمس، حيث قسموا السنة ثلاثة فصول وقسموا الفصل أربعة أشهر وسموا الفصول (الفيضان, البذر والإنماء, وفصل الحصاد) وكان شهرهم ثلاثين يوما وسنتهم 360 يوما مضاف إليها 5 أيام هي أيام النسئ وهي الأيام التي فيها الأعياد الإلهية الرئيسية الخمسة.
وبالرغم من اعتماد المصريين في جميع نواحي البلاد على النيل، إلا أنهم جهلوا منابع النيل فرددوا أنه آت من السماء, كما اعتقدوا أنه نتيجة سقوط دموع إيزيس فيه عندما بكت على فقدان زوجها أوزوريس، لافتا إلى أنهم وقت الجفاف كانوا يقدمون القرابين للإله حعبي حتى يعود عليهم بالفيضان مثلما جاء في لوحة المجاعة في جزيرة سهيل بأسوان، وهي لوحة سجلت في العصر البطلمي وتتحدث على القحط الذي حل بمصر، ولذلك قدم المصري القديم للإله “حاعبي” القرابين، حتى ينعم عليه بالاستقرار والخير والنماء.
ونهر النيل لم يخلق القطر المصري فقط، ولم يوفر لأهله الغذاء والكساء بل جمع كلمتهم واضطرهم لابتكار النظم الزراعية السليمة وكافة النظم الاجتماعية، فضلا على ذلك كان للنيل أثر آخر، لقد حسب القوم سنتهم الشمسية وبدأها مع توافق شروق نجم الشعرى اليمنية مع ظهور الفيضان، والشروق هنا يعني ظهور ذلك النجم في الأفق الشرقي مع الشمس، وقسموا السنة ثلاثة فصول، وقسموا الفصل أربعة أشهر، وسموا الفصول (الفيضان، والإنماء، وفصل الحصاد) وكان شهرهم ثلاثين يوما، وأسبوعهم 10 أيام، وكانت سنتهم 360 يوما، مضاف إليها 5 أيام هي أيام النسيء، وهي الأيام التي فيها أعياد الآلهة الرئيسية الخمسة.
ومن خلال هذا الاستقرار برع المصري القديم وتألق وعمل بالتجارة والصناعة، ولذلك صنع أول حضارة عرفها الإنسان على وجه التاريخ، ولذلك فكان الأثر الكبير للنيل في بناء وتشييد الحضارة التي لا تزال تحير العالم أجمع، وعندما تأمل الفراعنة نهر النيل وجدوا زهرتين في هذا النيل اللوتس والبردى وهما رمزا مصر العليا والسفلى.