بقلم: شريف رفعت
يقف أمام باب الشركة، في يده جاروف ثقيل يحطم به في حركات رأسية رتيبة الثلج الذي كون طبقة كثيفة مسطحة على الأرض، ثم يجرفه و يضعه جانبا، برد شتاء مونتريال قاسي، البرد القارص القاسي يحتوي جسده رغم سترته الثقيلة و غطاء الرأس الذي يحمي أذنيه و القفاز العازل، يزيد من قسوة البرد الريح القوية العاتية.
هذه أول وظيفة له في كندا بلد مهجره، حصل عليها بعد سنة و نصف من وصوله هو و أسرته إلى مونتريال، من الصعب توصيف الوظيفة، أهو عامل نظافة أم عامل صيانة أم خادم للجميع؟ ببساطة عليه أن يقوم بكل الأعمال الدنيا المطلوبة، هو الجامعي خريج كلية الأداب قسم فلسفة بتقدير جيد يقوم بالأعمال الدنيا في هذه الشركة اللعينة، قد يكون من المفيد و المريح أن يستخدم دراسته للفلسفة في فلسفة موقفه هذا، في الواقع لا حاجة للفلسفة، ببساطة الموضوع عرض و طلب، كفاءات و خبرات معينة يحتاجون لها و هو لا يملكها، إضطر لقبول هذه الوظيفة كي يطعم زوجته و ابنيه.
مر عليه سنة في هذه الوظيفة، اعتاد أن أن يحضر للعمل في ميعاده و أحيانا قبل الميعاد، يؤدي عمله بتفاني و بذكاء رغم أن أغلب المهام المطلوبة منه لا تحتاج لذكاء، يتعامل مع الجميع ببشاشة و أدب، يدرك تماما أهمية هذه الوظيفة المتدنية له و لأولاده و ان استغناء الشركة عنه مصيبة كبيرة لذلك يحاول أن يكون موظفا مثاليا في حدود هذه الوظيفة البائسة.
يستدعيه موظف شئون العاملين إلى مكتبه، هذه ثاني مرة يدخل هذا المكتب، كانت المرة الأولى عندما عينته الشركة، يطلب منه الموظف الجلوس، يخبره بطريقة آلية أن إدارة الشركة راضية عن أداءه و أنه سينتقل ليعمل في قسم التعبئة و الشحن، أضاف أنه يجب أن يـُحَسِن لغته لأن الوظيفة الجديدة تتطلب قراءة بعض الارشادات و الاتصال ببعض الموردين والعملاء. أخذه و قدمه لملاحظ القسم، قسم التعبئة و الشحن به فردين غيره بالإضافة للملاحظ، العمل لا يحتاج لجهد بدني مثل ما كان يؤديه من قبل، هناك أيضا بعض الأوقات التي لا يكونون مشغولين فيها فيمكنهم الراحة أو التظاهر بتنظيف و ترتيب المكان.
لم تسعه الدنيا من الفرح، عاد لزوجته مهللا، حكى لها عن وظيفته الجديدة، عقب بأن هذه البلد تقدر المجدين في عملهم و تكافئهم على قدر مجهودهم، سألته زوجته عن زيادة مرتبه، أجابها بالنفي و هون من هذا الموضوع، بالتأكيد العلاوات قادمة في المستقبل، ابتسمت له زوجته مشجعة و متجاوبة مع فرحته، لكنها في أعماقها شعرت أنه استبدل وظيفة حقيرة بأخرى أقل حقارة.
@ @ @ @ @
كان لهذه النقلة تأثير إيجابي على حياته عموما، رفعت روحه المعنوية، أصبح أكثر مرحا. هداه تفكيره إلى وَشـْم أعلى ذراعه بوشم يمثل شعار الشركة، كما لو كان هذا الوشم تعبيرا عن شكره و امتنانه للإدارة، يصبح الوشم أمر طريف في الشركة، يبدي البعض إعجابه به و هو يستعرضه رافعا كم قميصه و يعلقون عليه تعليقات مرحة.
تمر الأيام و هو كعادته يعمل بإخلاص و تفاني و صمت، أحيانا كان يضطر للبقاء بعد مواعيد العمل الرسمية لينهي اجراءات شحن عاجلة، لم يطالب بأجر هذه الساعات و لم تدفع الشركة شيئا في المقابل.
ينتشر في الشركة خبر أن هناك متاعب مالية، يلاحظ هو ذلك في قلة المنتجات التي يشحنها، إشاعات الاستغناء عن بعض العاملين تنتشر في أروقة الشركة، ينتابه قلق و هو يستمع لمناقشات العاملين عن من هم المعرضين للإستغناء، يستدعيه موظف شئون العاملين لمكتبه، يذهب لمقابلته وجلا متوقعا الأسوء، يطلب منه الموظف الجلوس، يخبره باختصار أن الشركة تعاني من مشاكل مالية، لذلك ستضطر للإستغناء عن بعض العاملين توفيرا لأجورهم، قال لنفسه “ها هي اللحظة قادمة، لحظة الاستغناء عني، ماذا أفعل؟ هل أستجدي هذا البغيض كي يبقيني؟ و هل بيده أن يبقيني؟ أم أن القرار نهائي؟ هل أخبره عن زوجتي و ولدي حتى يرق قلبه؟” أستأنف الموظف حديثه فأخبره بان الشركة قررت الاستغناء عن ملاحظ القسم، و أحد العاملين الآخرين، و انه من المطلوب منه أن يقوم بنفس المهام التي كان الملاحظ يؤديها بالإضافة طبعا لمهامه هو الأصلية، ثم مشجعا أضاف أنه يمكنه أن يعتبر هذه الخطوة بمثابة ترقية له.
غادر المكتب و هو مذهول، لقد نجى من استغناء الشركة عنه، مقابل ذلك سيزيد مقدار الشغل و تزيد المسئولية بدون مقابل مادي، لم يكن من المناسب إظهار سعادته أو حتى راحته فالجو العام في الشركة مقبض و شبح الاستغناء عن الخدمة يحوم فوق الجميع، عاد لزوجته يخبرها بالأمر، ركز على موضوع الترقية و تغاضى عن ذكر سلبيات الوضع في الشركة، هنأته زوجته، إصطحبها و الولدين لأحد المطاعم احتفالا بالمناسبة.
بعد هذه الواقعة بشهرين، مازالت أحوال الشركة غير مستقرة، استدعاه نفس موظف شئون العاملين لمكتبه، كرر نفس الحديث الذي قاله سابقا عن متاعب الشركة المالية ثم أخبره أن مهام القسم الذي يعمل به سوف تنتقل إلى قسم آخر حيث سيقوم موظفيه بعمله بالإضافة لأعمالهم الأصلية، و بالتالي فالشركة لا تحتاج له و أن خدمته قد انتهت، أخبره أيضا أن الشركة ستعطيه أجر أسبوع مكافأة له على نهاية خدمته، و أن إدارة شئون العاملين حرصا على مصالح الموظفين المنتهية خدمتهم ستعقد لهم محاضرة عن كيفية البحث عن عمل، و نصحه أن يحضر هذه المحاضرة.
@ @ @ @ @
عاد لمنزله مهزوما مدحورا، عندما غير ملابسه نظر إلى وشم شعار الشركة بأسى و بعتاب كأن الوشم خَيـَبَ أمله و لم يتمكن من إقناع أصحاب الشركة بمدى حبه لشركتهم و فخره بالانتساب لها.
تمر الأيام و الأشهر و هو يعاني من البطالة من جديد، أكثر ما يؤلمه نظرات ابنيه له، نجح أخيرا في العثور على عمل، مرة أخرى وظيفة بسيطة مرهقة، تكرر تفانيه في عمله و انضباطه و تواصله مع زملاءه بطريقة ذكية، وضع وشم جديد يمثل شعار الشركة و تباهى به أمام زملاءه و مديريه، بعد سنتين تستدعيه مو ظفة شئون العاملين، تقول له العبارة التي أصبحت شائعة في العديد من شركات كندا، العبارة التي يقولها ألاف موظفي شئون العاملين لعشرات الألاف من الموظفين المـُسْتـَغـْنى عنهم “ الإدارة عازمة على إعادة هيكلة الشركة، و على التخلص من الشحم الزائد حتى تصبح الشركة ذات لياقة عالية و مقدامة، و بالتالي لا نحتاج لخدماتك”، أخبرته أنهم سيدفعون له أجر أسبوع مكافأة نهاية خدمة، و حرصا على مستقبله سيعطونه خطاب يفيد بأنه كان موظفا عندهم و كان يؤدي عمله بطريقة جيدة، يخرج من المكتب مذهولا، يهون عليه بعض الشيء أنه ليس الوحيد الذي أُسْتـُغْنِيَ عنه فهناك العديد مثله في هذا اليوم الأغبر، استرجع ما قالته الموظفة عن التخلص من الشحم الزائد، هو إذن بأجره المتدني يمثل شحما زائدا لإدارة الشركة. عاد لمنزله، أخبر أسرته بالأمر، يشعر ان الولدين دون أن يتكلما يلومونه على ما حدث، كأن لسان حالهم يقول “لو كان عندك خبرات مطلوبة في سوق العمل لما كان هذا مصيرك، لحصلت على وظيفة أفضل، وظيفة لا تطرد منها”. أكد لنفسه أنه سيعاود البحث عن عمل، سيجد بالتأكيد عمل آخر قد يكون أحسن، و سيستمر فيه لسنوات طوال.
@ @ @ @ @
أمسية صيفية دافئة، أوى إلى فراشه مبكرا في فنلته الداخلية، زوجته تنظر له مستغرقا في نومه يتنفس بانتظام، تسترجع شريط حياتها معه، حبها له، أمالها قبل الزواج، أحلام و مغامرة الهجرة، ترنو لوجهه، لقد تحول من انسان رقيق حالم إلى مخلوق باحث عن لقمة العيش، مخلوق عامل ملتزم مجد مخلص مُسْتـَغْنَى عنه، الولدان على وشك التخرج من الجامعة، هذه هي النقطة المضيئة في حياتها، تنظر إلى ذراعيه العاريتين، مغطيان بوشوم شعارات الشركات التي عمل بها على مر السنين، ذراعيه يصلحان أن يكونا سيرة ذاتية تخبر عن تاريخه الوظيفي، يا لخيبة أمله في كل هذه الشركات، يحلم و يتحطم حلمه، يعاود الحلم و البحث عن الانتماء دون جدوى، كان في البداية يريها الوشم الجديد عندما يضيفه لكن بعد عدد منهم امتنع عن ذلك، كأنه يوشم نفسه في سرية. لاحظت وشم جديد لم تراه من قبل، استنتجت من مكانه على الذراع أنه آخر ما أضيف، وشم لورقة شجرة الميبل بلونها الأحمر القاني، ورقة شجرة الميبل رمز كندا.