بقلم: شريف رفعت
نشرت الصحف اليومية خبرا بَعَثْ الإثارة في نفوس القراء اليوم بأكمله، ثم إنتشر بعد ذلك في العالم أجمع، مفاد الخبر أن ياقوتة في حجم البندقة لها شهرة واسعة لقيمتها الثمينة قد اختفت، أمير هندي في زيارة لأحد المدن الأمريكية كان يتباهى بهذه الياقوتة و يتزين بها إكتشف إختفاءها فجأة بعد مشوار في إحدي سيارات الأجرة التي أقلته إلى فندق في أحد الضواحي، حيث كان قد نجح في التسلل خفية رغم رقابة حرسه الخاص و الشرطة. وُكـِلـَت مهمة العثور على الياقوتة لفريق من الشرطة تكون خصيصا لهذا الغرض. عندما إستيقظت المدينة على خبر ضياع الياقوتة تمنى مئات من الناس العثور عليها في شوارعهم، أضاف ذلك نوبة من التفاؤل و الإثارة على المدينة بأكملها، شعور مما يحتوينا عندما نشعر أن ثراء شخص معين يمكن أن ينتقل إلينا ايضا.
الأمير لم يتهم أحدا بطريقة محددة، و استبعد تماما أن تكون السيدة المرافقة له مسئولة عن ضياع الياقوتة و بالتالي لم تحاول الشرطة ملاحقتها، سائق سيارة الأجرة ذهب للشرطة و أدلى بأقوال مفادها أنه أوصل الأمير و السيدة التي في صحبته إلى فندق بالضواحي، الأمير كان يرتدي عمامة ثمينة و السيدة التي معه كانت أوروبية ما يميزها هو ماسة في حجم حبة البازلاء ترتديها على جانب أنفها الأيسر كما تفعل الهنديات الثريات، هذه التفاصيل سحبت الاهتمام بعض الشيء من موضوع الياقوتة المفقودة و زادت من فضول رجال الشرطة لتفاصيل أكثر.
راجع السائق بعد تفتيش دقيق لعربته كشفا بأسماء من ركب معه في ذلك اليوم، أحدهم كان رجلا يبدو عليه أنه عامل أجنبي، أخذه للميناء حيث كان سيبحر إلى أوروبا، إتضح أن هذا الرجل إيطالي، إستقل السيارة من أمام منزل في حي يسكن أغلب منازله مهاجرون، الرجل كان يرتدي بنطالا واسعا مما يفضل المهاجرون إرتداءه، حذاؤه كان متينا بكعب سميك مما يلبسه أهل هذه الطبقة التي تسكن حي المهاجرين، كان يرتدي قبعة فوق وجه رفيع محلوق بعناية و مليء بالتجاعيد، متاعه كان عبارة عن حقيبة ثقيلة مربوطة بحبل متين و صندوق متين يبدو كما لو كان مصنوعا من الحديد، غادر هذا الراكب البلد في نفس اليوم، لكن أي شكوك بخصوصه تلاشت عندما إتضح أنه كان يتصرف كما لو كانت هذه أول مَرَة في حياته يستقل سيارة أجرة، فلم يغلق باب السيارة جيدا أول الأمر ثم كان متعلقا بالنافذة كما لو كان خائفا أن تقف السيارة فجأة فيـُلْقى به خارجها، كان يحملق في الشوارع كشخص سيغادر المدينة و ربما لا يعود إليها.
الشرطة ركزت إهتمامها على الرجل الذي ركب معه من فندق الضاحية الذي أوصل الأمير إليه، طلب هذا الرجل من السائق التوجه إلى ضاحية العمال الإيطاليين المهاجرين، و هو المكان الذي استقل منه المهاجر الإيطالي غريب الأطوار السيارةبعد ذلك. هذا الراكب موضع التساؤل و الذي أعطى السائق وصفا له يبدو من أهل المدينة، بـُحـِث عنه لكن دون جدوى، ثم إن عدم إستجابته للنداء المنشور في الجرائد محددا جائزة مالية كبيرة لمن يعيد الياقوته دليل على أنه ليس هو من عثر عليها، عموما لأن الياقوتة كانت مشهورة في العالم كله لقيمتها و سهل التعرف عليها كان الأمل معقودا على أنه يوما ما سيُعْثر عليها.
في نفس الوقت كان المهاجر الذي ذكره السائق في طريقه لمدينته الصغيرة في جنوب إيطاليا غير واعٍ بكل هذه الأحداث، كانت معه مجموعة غريبة جدا من الأشياء المختلفة التي إشتراها من أمريكا، أشياء غريبة حتى بالنسبة لمهاجر بسيط التفكير، حقيبته من الجلد الصناعي الذي ظن أنه جلد طبيعي بها “الأوڨـرأول” الأزرق الخاص به مغسولا و مكويا، به أيضا إثنى عشرة قلم حبر في نيته أن يبيعها لسكان مدينته ناسيا أنهم جميعا تقريبا مزارعين و رعاة و أنه لا يوجد سوى نصف دستة منهم يستطع الكتابة، كانت معه أيضا بعض مفارش للطاولات، مقصان لقص الشعر إعتاد أن يستخدمهما لقص شعر زملائه من العمال المهاجرين، قطعة حديدية تبدو كجزء من آلة لا يدري ما الغرض منها تشبه مسدس لكنها لا تطلق رصاصات، دستة من قطع قماش عليها نقوش أمريكية و أشياء أخرى طريفة كي يبهر و يسلي بها زوجته و إبنه و أصدقاءه، أثقل ما في متاعه كان الصندوق الحديدي القديم المتين و الذي به بعض الخبطات رغم متانته، قفل الصندوق يفتح باستخدام تركيبة من ستة حروف حرص على عدم نسيانها، أما عن النقود فقد كان معه ألف دولار، منهم ثلاث مئة سيردها لمن إستلفها منهم عندما نوى القيام برحلته، في جيب معطفه قطعة من البلور الأحمر في حجم البندقة، كان قد عثر عليها مصادفة في سيارة الأجرة التي أقلته إلى الميناء، لم يكن عنده فكرة ما الغرض منها، أصابعه شعرت بها تحت وسادة المقعد في سيارة الأجرة، إحتفظ بها كتعويذة للحظ السعيد، فكر أنه قد يعلقها في سلسلة ساعته كحلية، الغريب أنه لم يكن هناك ثقب في قطعة البلور الحمراء هذه و بالتالي فهي ليست من الأحجار التي تعلقها نساء المدينة في عقودهن.
الأشياء المختلفة التي يحتفظ بها المرء قبل مغادرته بلد أجنبية بالتبعية تكتسب قيمة الذكريات الغالية، ذكريات المسافات البعيدة و الحنين، ذلك كان شعور الإعزاز من مهاجرنا تجاه قطعة البلور التي كانت باردة عند ملامسته لها و ناعمة و شفافة مثل قطعة من السكر النقي.
أنشأ صديقنا تجارة صغيرة بكل ما جلبه معه من سفره، الصندوق الحديدي المتين موضوع بجوار الحائط هناك طاولة للبيع و الشراء فوقها أقلام الحبر في صندوقها، مفارش الطاولات، مربعات القماش الأمريكي عليها صور تمثال الحرية و ملائكة في الأركان يحملون صور الأباء المؤسسين للولايات المتحدة يحيط بها نجوم زرقاء و بيضاء. خمسة سنوات طوال بنى خلالها مقتنياته بصبر و في باله لحظة رجوعه لبلده، حاول اختيار ما رآه طريفا و مثيرا للناس في بلده، قد يكون حصل على هذه الأشياء من سوق الأشياء المستعملة الرخيصة و التي يعلم الله من أين أتت و تتبادلها أيدي المهاجرين الفقراء. بذلك أصبح هو ـ من بدأ حياته كعامل يومية ـ تاجر في بضائع مختلفة، لقد كان الصندوق الحديدي القديم المتين ما دفعه لهذا الاتجاه، فعمله كتاجر لم يكن له سبب آخر غير الصندوق، شعر كما لو كان غنيا لأن كل المال الذي بجيبه كان بعملات أجنبية سيتحول إلى كمية كبيرة من العملات المحلية، حساباته العقلية بخصوص ما يعتبره ثروته جعلته فخورا بنفسه مما قاده إلى لحظات غريبة من النشوة. كلما لمس البلورة الحمراء التي في جيبه شعر بفرح طفولي عَمَّـق هذا شعوره بأنها تعويذة حظ سعيد. أصبحت واحدة من هذه الأشياء عديمة النفع التي نعتز بها طوال حياتنا و لا نستطيع الاستغناء عنها وبالتالي تصبح جزء ًمنا بل تصبح أيضا تراثا عائليا و تبقى معنا تجنح عقولنا إليها من وقت لآخر، بينما أشياء أخرى مهمة نحرص عليها و نحاول إخفاءها في مكان أمين قد تضيع.
بعد عدة أيام من وصوله لبلده، ذكره ملمس البلورة الناعم بيوم إنطلاقه في رحلة الرجوع، تذكر سيارة الأجرة، الشوارع التي مر بها و التي أصبحت في ذاكرته مثل المناظر الختامية في مسرحية شاهدها و علقت بذاكرته.
أقام صاحبنا حانوته في أعلى طريق منحدر في بلدته، البلدة التي يسكنها مزارعون و رعاة، وضع في الحانوت طاولة طويلة و مجموعة أرفف عليها بالإضافة لما أحضره من أمريكا مختلف البضائع من أجولة الدقيق إلى أقمشة الموسلين التي تفضلها النساء في ركن من الحانوت كان هناك برميل نبيذ مرفوع على حامل و بجواره جرة من الفخار بها زيت، صندوق الحديد المتين مركون بجوار الحائط، كان يشعر بكثير من الفخر عندما يفتحه أمام زبائنه، يحتوي الصندوق دفتر الحسابات و قائمة بها أسماء من اشتروا منه على أن يدفعوا لاحقا عندما يحين ميعاد الحصاد أو ميعاد إنعقاد سوق الماشية.
بالتدريج بدأت تجارته تبدو مثل أي تجارة قديمة. حتى أصبح كما لو كان لها رائحة مميزة، هناك علامات على الحائط بالطباشير وضعتها زوجته التي لا تعرف الكتابة كي تسجل المبيعات التي بيعت بالأجل، أما إبنه الصغير الذي كان ملتحقا بمدرسة و الذي يستطيع الآن كتابة أسماء الزبائن في قائمة المبيعات بالأجل فقد كان يقف أحيانا في الحانوت خاصة في أوقات بعد الظهر الحارة حيث تبطئ المبيعات ما عدا المشروبات المثلجة للرجال الذين استيقظوا توا من نومة بعد الظهيرة.
ببطء وعبر الأيام ،الحذاء الأمريكي الذي أهداه لزوجته أصبح باليا و زوجته نفسها أصبحت لها هيئة زوجات البائعين المميزة. أما البضائع التي أحضرها معه من أمريكا فقد بيع أغلبها، ما بقى كان خوذة العمل التي احتفظ بها في دولابه و التي بدت جديدة تماما، الأقمشة المربعة ذات النقوش الأمريكية تم توزيعها كهدايا على الزبائن المميزين، أما أقلام الحبر فلم يرغب أحد في شرائها، ثم أن نتيجة الإهمال تحطم أغلبها و بقيت أجزاؤها المحطمة في صندوقها، الرجل و الذي كان يحمل في صدره قلب طفل كان يعتقد أن سنون هذه الأقلام مصنوعة من الذهب، لذلك إعتز بها كما يعتز طفل بلفافات الشوكولاته المفضضة. شيئ آخر إعتز به الرجل ، صحيفة قديمة بالإنجليزية، رفض أن يتخلى عنها حتى عندما كان يحتاج لورق كي يلف به مبيعاته، أحيانا كان يتصفحها بإمعان، صور الإعلانات كانت تذكره بالناس في أمريكا يدخنون سجائر مميزة، بالأولاد يجوبون شوارع المدينة، بأجهزة الجرامافون، في الواقع بكل الحياة التي شاهدها أثناء زياراته النادرة لمنطقة وسط البلد في المدينة التي أقام بها.
أما قطعة البللور فقد تذكرها في أحد الأيام و أعطاها لإبنه الذي كان يحتفل بعيد ميلاده مع أصدقائه، كان الأولاد يلعبون بالبـِـلْيْي*، يصوب كل منهم بليته نحو بـِلْيي اللآخرين محاولا أن يصيب الهدف، الإبن إستخدم قطعة البلور لهذا الغرض و إدعى أن بلورته أحسن و أكثر جمالا من بِـلْيي الآخرين لأنها قادمة من أمريكا و لأن لونها أحمر قاني، لذلك إعتز الولد بها كشيء ثمين يحرص عليه.
بينما الأب كان معجبا و في نفس الوقت عنده فضول بخصوص قطعة البلور هذه التي أصبحت لعبة لإبنه، عقله كان يأخذه إلى خيالات الماضي أثناء إغترابه عندما ظن أن العالم مليء بالأشياء الثمينة الضائعة من أصحابها و التي يعثر عليها المحظوظون فقط، كان هذا هو السبب في أنه دائما ما يمد أصابعه باحثا عن أشياء مفقودة سواء تحت وسائد مقاعد الحافلات و سيارات الأجرة أو مقاعد الأماكن العامة أو مراتب المراكب التي أبحر عليها. لكنه لا يتذكر أنه عثر على شيء ثمين أبدا، في الواقع مرة واحدة عثر على خمسة دولارات في الطريق، تذكر هذه الواقعة و تذكر أيضا أنها حدثت في يوم ممطر.
* البـِلْيي كرات زجاجية صغيرة شفافة ملونة رخيصة يلعب بها الأطفال.