بقلم : نعمة الله رياض
تسلق القرد بمهارة فائقة الشجرة العملاقة المواجهه للكهف الذي يسكن فيه مع عائلته الكثيرة العدد، كان زعيم لقبيلة مكونة من عدد كبير من العائلات ، يسكنون في كهوف متقاربة في الجبل الشاهق الذي يطل علي بحيرة زرقاء اللون مترامية الأطراف ، وخلفها ، بعيدا في الأفق ، تظهر غابة ضخمة من الأشجار، يحدها جبال شاهقة تكسو قممها الثلوج البيضاء ..
ألقي نظرة علي الأرض المواجهه للكهف .. كانت الإناث مشغوله … إحداهن جالسة علي صخرة، ترضع وليدها، تبتسم له ، وتمرر يدها علي وجهه الصغير.. وأخري تساعدها إبنتها في شي فخذ ضخم من ثور تم إصطياده في الصباح الباكر .. وكانت انثي ثالثة منهمكة في تجفيف فراء في حرارة الشمس لصنع رداء يقي من الصقيع ، وعلي مسافة قليلة جلست مجموعة من الإناث يصنعن شبكة كبيرة من الياف الشجر لصيد الأسماك .. وكان ابنه الأكبر يشحذ بمهارة رأس رمح حجري بحجر آخر أكثر صلادة ، وفي الداخل كان إبن ثاني ينحت علي جدران الكهف رسما” لحصار وعل وإصطياده، بينما تمددت علي الأرض الصخرية خارج الكهف ، عدد من الكلاب الأليفة الضخمة ، كان كل كلب يغلق جفنيه تارة ويفتحهما تارة اخري ، فلا يُعرف إن كان نائما” أو مستيقظا” .. لكن هذه هي غريزة الكلاب ، أن تكون دائما مستعدة للدفاع عن نفسها وعن أصحابها الذين يعيشون معها ، وكأن هناك عقدا” أزليا” علي مر العصور بين الكلب وصاحبه ، أن يتولي حراسته وأسرته، ويلعب مع أطفاله ويساعده في الصيد ، مقابل ما يقتات من العظام وبقايا الطعام ..
في جلسته هذه علي جذع الشجرة التي تعود عليها في نفس الموعد كل يوم ، وبعد يوم عمل شاق ، كان يلوك بين أسنانه بضعة أوراق من أشجار، أكتشفها حديثا ، كان مضغها وإبتلاع عصيرها تسبب له حالة من النشاط الزائد والنشوة تساعدة في مهامه اليومية الشاقة ..
كان يحرص علي إنجاز المهمتين الرئيسيتين له .. أولهما هي توفير الطعام لأسر قبيلته ، فكان يقود أفراد القبيلة من الذكور الأشداء في رحلات صيد فجر كل يوم لمحاصرة ثور أو غزال شارد عن القطيع وقتله بالرماح ، كانت مهمة شاقة محفوفة بالمخاطر ، يعاونهم فيها كلاب الصيد التي تحاصر معهم الطريد وترهبه بنباحها المتواصل ..
أما المهمة الأخري ، وكان يعتبرها واجبا” ضروريا” لابد من إنجازة بكفاءة تامة ، فهي إخصاب إناث القبيلة عندما يحين وقت حملهن ، فكان التكاثر وزيادة النسل هو الهدف الرئيسي والهام لتلك القبائل التي كانت تقاس قوتها بكثافة تعداد أفرادها ، خصوصا من الذكور ، لذلك كانوا يبتهجون ويحتفلون بمولد كل طفل ذكر ، ويرقص الذكور والإناث في حلقة دائرية حول الأم ووليدها ..أكثر من نصف مواليد القبيلة وبعض القبائل الأخري كانوا أولاده ومن صلبه ، وأحيانا كانت الإنثي تحضر برفقة والدها أو والدتها لتنجب طفل بصفات مميزة مثل الزعيم !!!
كانت الإناث ، بالغريزة ، ينجذبن جنسيا لزعيم القبيلة ، كما تنجذب إلي ذكر الطاووس بريشه الزاهي الملون جماعته من الإناث ، وكان الزعيم يتمتع بطاقة جنسيه هائلة تمكنه من ممارسة الجنس مع سبعة من الإناث علي الأقل كل ليلة .. وكانت الإناث يتهافتن عليه ويفضلنه بالغريزة لضمان جودة السلالة وتميزها ، فقد كان زعيم القبيلة يتمتع بجسم ممشوق وقوي، خفف الإنتقاء الطبيعي عبر الأجيال من شعره الكثيف، وعبر الأجيال ايضا” ، نزلت حنجرته لأسفل الذقن مما مكنه من إصدار رنات مختلفة بدلا من الصيحات التي كان يرددها اسلافه مع إشارات الأيدي بغرض التفاهم، وكان له جبين ضخم وأنفٍ بارز إلى الأمام، وكان فكه السفلي بارزاً، أما عظام الذراع والساق فكانت سميكة، وامتلك عضلات كبيرة الحجم في الكتفين والرقبة، وكان الجزء الأمامي من الجمجمة بارزاً..
كانت طقوس ممارسة الجنس مع زعيم القبيلة فريدة أيضا، وكانت تعتبر منظمة وحضارية ، طبقا لمعتقدهم ، فكانت الإناث يحضرن قبل غروب الشمس ويجلسن في طابور تحت الشجرة العملاقة ، التي يجلس علي جذعها زعيم القبيلة وكل واحدة من الإناث كانت تتزين بعقد وسوار من محارات البحر الصغيرة الملونة ، وتحضر معها ورقة خضراء كبيرة من شجر الموز ، بها هدية من الفواكه أو قطعة كبيرة من اللحم المشوي أعدتها أمها أو سكين حجري للصيد والقتال صنعها والدها أو أخوها ، وعندما ينزل الزعيم من الشجرة، يسجد مع الجميع للشمس عند غروبها ويتقبل الهدية من كل أنثي ، ويمارس الجنس معها في الهواء الطلق وعلي ضوء النار الموقدة بالقرب من فتحة الكهف والذي تجلس خارجه باقي الإناث التابعة له!!
شعر القرد أن فصيلته المميزه وصلت إلي أوج الحضارة !!، فقد علمه والده أن يضع أعشاب جافة في تجويف صخرة ، وبإلإحتكاك المستمر بحجر مدبب داخل التجويف تسخن الأعشاب وتتولد شرارة النار ..كان إشعال النار من أعظم الإكتشافات في ذلك الوقت فقد كانت تستعمل في التدفئة في الطقس البارد وطهي الطعام وارهاب الحيوانات المتوحشة ومنعها من الإقتراب من أماكن تجمعهم ..
طالما أحس بأن فصيلته مميزة منذ أجيال عديدة .. وإنهم سادة الأرض المتفوقين علي جميع الطيور والأسماك والحيوانات الأخري ، بما فيها الفصائل الأخري من القرود التي ما زالت تعيش في الغابة علي الأشجار ، لكن أسلافه من أفراد فصيلته ، نزلت من الأشجار، ذات يوم ، وبدأت تسير علي الأرض منتصبة القامة ، مما جعلها تستخدم أياديها في أعمال مميزة كنحت الأحجار وتصنيع رؤوس الرماح لصيد الحيوانات الكبيرة، وبالتالي زادت نسبة البروتين في طعامهم، ممّا أدى إلى تطور ونمو المخ ،وتمكنت آلية الأصطفاء الطبيعي أن تخدم تكيف الكائن مع الطبيعة المحيطة ، والتي إختلفت وتنوعت منذ رحل أسلافه بسبب شح الطعام ، من المناطق الحارة الإستوائية، إلي المناطق الباردة الثلجية في الشمال .
وبإستخدام المخ ، تمكنوا أيضا” ، ليس فقط من تطوير وسائل الحصول علي الطعام وتجهيز المسكن ، ولكن أيضا في التفكير!!.. فكروا في معني وجودهم !! .. وشعر افراد هذه الفصيلة بالخوف من الموت ، وأحسوا بالقلق علي أسرهم واولادهم من المجهول ومن المرض ومن الأخطار المتربصة بهم ، كالصواعق والرعود والزلازل والحيوانات الضارية .. شعروا بالحاجة لمن يحميهم ، لقوه قاهرة ، أعظم من تجمع أفراد قبيلتهم مع بعضهم للدفاع ضد الأعداء، فكانت النار هي من تسجد لها بعض القبائل ، وكانت الشمس والقمرالنجوم هي اآلهه الأقدر في نظر قبائل أخري، وكانت التماثيل الحجرية الضخمة التي صنعها البعض الآخر هي الجديرة بالإسترضاء وتقديم الذبائح والقرابين !!! كان يسجد هو وقبيلته للشمس في مشرقها، وعند إنتصافها في كبد السماء، وعند غروبها في الأفق .. كانوا يسخرون ، وأحيانا يتعاركون مع القبائل الأخري التي تسجد للنار أو التماثيل المنحوتة، فالشمس تمنح الأرض ومن عليها النور والدفئ ، ولم يصنعها أحد !! ولم يدركوا بعد ، أن قوة لانهائية قادرة وغير محدودة أعظم من الشمس والنجوم ، هي التي خلقت الكون كله وسمحت بنشأته وخلق الحياة وتطورها في ربوعه .
في فجر يوم بارد سقطت فيه أمطار غزيرة ، خرج الزعيم إلي الغابة مع إبنه الأكبر ومجموعة من الذكور الأقوياء وعدد من الكلاب للصيد ، كان الضباب كثيفا والرؤية ضعيفة وكانت الأرض لزجة وموحلة ، كانوا يسيرون بحذر شديد شاهرين رماحهم ترقبا لأي فريسة تظهر أمام أعينهم .. أخيرا شاهدوا غزالا ضخما يعدو في إتجاههم !! إعترض الزعيم الغزال وغرس رمحه في صدره أسفل رقبته ، ولكنه لم يدرك أن الغزال كان يهرب من فهد سريع ، وصل في طرفة عين وإنقض علي الزعيم مطبقا” بأسنانه الحادة علي رقبته، فوجئ أفراد المجموعة بما حدث ، واسرعوا بالهجوم علي الفهد برماحهم فلاذ بالفرار .. وسط حزنهم الشديد ، حمل أفراد المجموعة الزعيم وصيده الأخير لمقر القبيلة يتقدمهم إبنه الذي كان يبكي بحرقه لفقدان والده ، قبل غروب الشمس تجمع جميع أفراد القبيلة حول جثة الزعيم المسجاة خارج الكهف ، ساروا في طابور طويل من الذكور والإناث، كل ذكر يضع يده علي الزعيم وهو يبكي، وكل أنثي تتحسس جسده وهي تولول .. حملوه وساروا به ، يتقدمهم إبنه الأكبر وهو يضرب صدره بقبضتي يديه ويبكي بلوعة .. وصلوا لحفرة بعيدة عن مكان إقامتهم والقوا فيها جثة الزعيم.. عندئذ صرخ الأبن الأكبر صرخة مدوية رددت صداها الجبال المجاورة، وسجد للشمس عند غروبها ، سجد ورائه جميع أفراد القبيله .. مكثوا كلهم ومعهم كلاب الحراسة حتي بزغت شمس يوم جديد ، حينئذ صاح جميع أفراد القبيلة ملوحين بأذرعهم ومبايعين الأبن الأكبر، زعيما جديدا للقبيلة .. كان من الممكن وسط هذا الصراخ سماع تلك الرنات الصوتية المختلفة،كانت إرهاصات للغة بدائية تصلح للتخاطب !!