بقلم: درويش صايغ
الشعر ، بداية ، هو ذلك الإحساس الطاغي يسيطر على الشاعر للحظات مخطوفة من عمر الزمن فتتألق حروف الأبجدية وتصير جدار شعاع تتراكم فتصبح قصيدة مولودة من رحم لحظة لقاء عفوي بين الفكر المضرج بشعاع الخيال وبين الحرف المنتقي من بين حروف الأبجدية . تولد القصيدة معمدة بنور ملائكي يحسه ذلك القادم إلي حلبة الشعر يسمع ويقرأ ويشعر بجمال الحرف ويدرك معنى تلك المعاني وقد ترادفت لتصبح قصيدة للشعر ، كما هو في المطلق ، هو شحنة من الدهشة يعيشها الشاعر وهو يختصر الكون ليصل إلي لحظة الولادة في رحلة يتجاوزها بعد أن أستطاع بناء الحروف في وحدة جمالية مترادفة في كمال وفي أنسياب موسيقي تغنيه آلهة الموسيقى وترنمه خيالات من الشجن الجميل بعد ان استطاع الشاعر بكامل سيطرته أن يضع حدود القصيدة التي تعيش في وجدانه وهي تريد أن تصبح كائناً حيّاً يتنفس مع القراء وهي تريد ، أي القصيدة ، أن تتواصل وأن تتفاعل وأن تكون جزءاً من الذاكرة وأن تكون شيئاً من التاريخ !
قصيدة الشعر في منطلق البحث عن الذات هي جينات متأصلة في أحاسيسنا وفي مشاعرنا وفي كل منعطفات حياتنا . قصيدة الشعر عندنا هي فقه الحياة وهي الوجه الآخر لوجداننا ولثقافتنا ولذاكرتنا منذ أن حفظنا المعلقات وجرير وأبو الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني ثم أبو القاسم الشابي ونزار القباني وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة ، إلي أدونيس ويوسف الخال وغيرهم الذين أثروا حياتنا بعطاءات وإبداعات نتعامل معها كمفردات لمكوناتنا اليومية ونحن كدارسين وحافظين وقارئين للشعر ، نتطور يوماً بعد يوم بما قرأناه وبما سوف نقرأه وبما سوف تستقر عليه مشاعرنا أمام كل بيت من شعر أستطعنا الوصول إليه أو التعرف عليه .
يستطيع المدّ الشعري أن يستمر في العطاء وهو يتواصل معنا بقصائد من جديد بحور الشعر أستطاع شعراء الحداثة أستنباطها وإدراجها في مفهوم الشعر بشكل عام بحيث أننا بتنا نتذوق ونستسيغ تلك البحور والتفعيلات الشعرية ، وهي قد أستقرت في قراءاتنا ومطالعاتنا وقد أستطاع شعراؤنا المحدثون أن ينتقلوا بنا من بحور شعرية كلاسيكية إلي بحور شعرية وتفعيلات جديدة مقبولة كما كل المتغيرات التي تحدث حولنا والتي نتقبلها ونعيشها وكأنما هي بمرور الأيام أصبحت جزءاً من التراث ومن التقاليد المتعارف عليها .ونحن اليوم أمام ديوان شعر جديد للأديب والشاعر فريد فؤاد زمكحل تحت عنوان « بكاء يغني « الذي كتب في مقدمته وفي أهدائه إلي كل إنسان ، بعد أن اعتمد الكلمة مدخلاً إلي عالم النور والمعرفة والتحرر وكما أن في البدء كان الكلمة»، فالإنسان أيضاً هو بداية البداية لكل شيء ولكل تطور على مستوى الكون . بعد ذلك يذهب بنا الأديب والشاعر إلي عالمه الشعري وإلي محرابه ليضع أمامنا مجموعة قصائده وأشعاره وقد كتبها وسطرها بدهشة حائرة بعد أن أستطاع التعبير عن عواطفه لإمرأة تختزل كل قصائده وتتمحور حولها كل الحروف وكل نداءات الحب ولوعة العشق الدفين في مجموعة من القصائد والأشعار تذكرنا بمجنون ليلى أو قيس بن الملوح وذلك في أبياته من قصيدته « برقة الأنثى لا تذبحيني « حيث يقول بصوت ملئ بعشق جنوني أوصله إلي حالة الغناء عند شفتي الحبيبة :
برقة الأنثي لا تذبحيني
تريدين قتلي ؟
تكفيني قبلة لتقتليني
والموت على شفتيك
رحمة فقبليني .
لقد وصل الشاعر بنا في منظومة عشقه إلي حدود النهاية التي تنهي حياة الإنسان بطلقة رصاصة وإنما هي القبلة القاتلة التي يتمناها الشاعر وقد سيطر على الوجد وذاب هو في غرام آخر حدوده تلك القبلة القاتلة بعد أن أستسلم أمام تلك المرأة الحبيبة وهو يعرف إنها برقتها تستطيع أن تذبحه ، ولكنه ، وهو على أبواب النهاية المحتومة أمام تلك المرأة المختلفة ، يطلب أن تكون نهايته بقبلة تورده نهاية كل عاشق لم يستطع بعشقه ولم يستطع بكل غرامه أن ينال من محبوبته كما هو قيس بن الملوح وكما هو مجنون ليلى ، وقد أستطاع الشاعر بهذه الأبيات البسيطة أن يدغدغ مشاعرنا وأن يلعب بعواطفنا وأستطاع بكل سهولة أن يعيدنا إلي زمن من روحانيات الزمن الجميل .ويتابع الشاعر فريد زمكحل بعد ذلك نداءه المستمر لإمرأة أخرى أستطاع بلحظة ما أن يكون فيها هو شهريار الملك وأن يكون هو الآمر الناهي في قضية عشق مختلفة ، حيث أنه في قصيدته « التوبة مقبولة على صدري « يخاطب تلك المرأة بصوت آخر مختلف بحيث أنه يقول بقوة الواثق من نفسه ومن ذاته :
ثوري كالبركان ، انفجري ،
تطايري شرراً ، ماذا تنتظري؟
أندمي ، أبكي ، حجي وأعتمري
والتوبة مقبولة فقط على صدري !
وهو يتابع في هذه القصيدة مفردات وتغريدات مختلفة ومقامات شعرية مبتكرة بحيث أنه يبقى ذلك السيد الآمر الناهي ويخاطب تلك المرأة :
قولي أحبك بهمس يزلزل أركان المستحيل !
المستحيل في هذه الكلمات أن يكون الهمس وهو ذلك الصوت المنخفض جداً، هذا الهمس هو سبب ذلك الزلزال ، ذلك الحدث الكوني الرهيب الذي يضرب في الأرض ويغير معالم الجغرافيا ، ذلك الزلزال الضخم يسببه همس كلمات تتفوه بها إمرأة تحاول الوصول إلي وجدان الشاعر وتحاول أن تطرق خلجات فؤاده ، إلا أنه ، وقد عرف مكانه على سلم الحب والعلاقة مع المرأة ، فقد تطور به الحال إلي أن يطلب منها طقوساً مختلفة ويسألها ممارسات حتى تستحق أن تكون له ، وهو في المقطع الثاني من هذه القصيدة يقول لها :
قولي ، اعزفي ، أمتطي
ثم
أسقني من شفتيك خمراً
وخمرك أنت السلسبيل ،
وقولي أهواك بعنف يكره
العشقُ البخيل !
تتطور علاقة الشاعر بديوانه هذا « بكاء يغني « بالمرأة التي هي تأخذ الحيّز الأكبر منه ، بين مد وجزر ، بين سلبية وإيجابية ، بين الحب من طرف واحد إلي الحب المتكامل المترجم بعلاقة طبيعية تسير بالأمور إلي حدودها الطبيعية ، وهو في قصائده وفي اشعاره يختصر أبو القاسم الشابي ونزار قباني ومحمود درويش ، وأستطاع بتقنية جميلة أن يضع بين أيدينا حدثاً من الشعر ممتلأ بالبهجة وبالشجن الجميل وأستطاع بتغريداته وبحوره الشعرية سهلة الأنسياب أن يجعلنا نحن قراء الشعر ومتذوقيه أن نمضي معه في رحلة شديدة التوهج وأن ندرك معه مجموعة من اللمحات الشعرية الخاطفة التي سوف ترسخ بذاكرتنا ونحن نقرأ له في قصيدته :
« من يملك تحريري»
كبلني عشقك يا إمرأة
وشتَّت تفكيري ،
ثم
وأخاصم قلبي لو جاءت نبضاته
لتحذيري !
وفي هذه القصيدة بالذات نحس بروح نزار قباني ترفرف حولنا وتبارك لنا شعراً جميلاً نقرأه ونستمتع باسقاطاته ونبتسم ونحن نعيش مرحلة جديدة في أدب المهجر في هذا القرن الواحد والعشرين بعد أن كان أدباء المهجر الأوائل قد وضعوا اللبنة الأولى لهذا الأدب في أوائل القرن العشرين !
الشعر ضرورة إنسانية وحالة من التوالد والتوهج والتعبير عن أسمى المشاعر والأحاسيس البشرية ، الشعر ينطلق بنا في عوالم من السحر والشجن والمعاناة النفسية التي نعيشها ونحن نقرأ الشعر وندرك معانيه واغانيه وقد أصبحت من تراثنا ومن تاريخنا ومن قدرنا في هذه الدنيا .
الشعر ، في النهاية ، هو أختصار الكون إلي حرف أبجدي ، وبسط هذا الحرف ليملأ الكون نوراً وضياءً وحباً .