بقلم: محمد منسي قنديل
الثقافة هي بصمة الإنسان على الطبيعة، عندما ينتزعها من البرية والعشوائية، ويضفي عليها بعضا من ذاته وتوقه ويصيغها وفوق حاجته، وتزداد قوة الثقافة بقوة الفكر الذي يساندها، وقد ظهرت الحاجة للثقافة منذ طفولة الإنسان المبكرة في هذا العالم، فقد أحس الأفراد المنعزلون داخل الغابات والكهوف المتباعدة بحاجتهم للتجمع، كانت البشرية قد عاشت زمنا من التنافس والصراع حول مساحة الصيد واقتناص الفرائس، ولكن تحديات الطبيعة كانت اقوى من أن تواجهها كل جماعة في عزلتها، كان من الضروري أن تتجمع سويا في أماكن متقربة، أن ينهوا سنوات الصراع وأن يضعوا أولى شروط الصيد وحسن الجوار، وفي لحظة نادرة من تاريخ البشرية تغلب فيها حب العيش المشترك والتفاهم بين البشر على غرائز الطمع والاستئثار، لقد خلقنا الله بطبائع مختلفة وسلوكيات متنافرة، ولكننا استطعنا أن نخترع ثقافة الاتفاق، الحد الأدنى منها على الأقل، فقد كانت مصلحة الإنسان، وصراعه المتواصل مع قوى الطبيعة تحتم ذلك، ولا يعاني ذلك أن العزلة قد انتهت، عزلة الفرد وعزلة الجماعة، فقد ظل هناك من يجد ذاته المتفردة بعيدا عن المكونات البشرية وصخبها، وظل هناك من يجد مصلحته في استمرار العيش المنفرد، وربما كانت طبيعة المكان تحتم عليه ذلك.
مشكلة العالم أنه كان أوسع من ايجاد نظرية شاملة للتوافق بين الجميع، فابتدعت كل جماعة قانونها الخاص، ثقافتها الخاصة، آلياتها التي تساعد على تماسكها وألفتها واستمراراها، الأمر الذي انعكس على تكوينها الحضاري، المصريون القدماء كانوا هم النموذج الأمثل لتلك الجماعة المتآلفة، ترى هل مازلنا نصر على أننا نمت لهم بصلة؟ هل نصدق حقا أننا ننحدر من اصلابهم؟ واقع الحال يقول غير ذلك، ولكن المصريون القدماء كانوا مجرد رعاة هائمين وسط صحراء جافة، وظلوا يتنقلون حتي اكتشفوا وجود النهر، كان نهرا بريا، تزدحم مياهه بحيوانات افريقية مفترسة، ولكنهم تجمعوا على ضفتيه، لم يكن استئناس النهر سهلا، فقد كانت تحيط به أجام من الأعشاب البرية والأشواك الجارحة، وتسبح في مياهه افراس البحر وتماسيح لا يسد جوعها شيء، ولكن المصريون الذين لا ينتمون إلينا بصلة قبلوا التحدي، حتى أن ملكهم الأول الذي لم اطراف دولتهم التهمته أحدى افراس النهر، اخذوا يزيلون اشواك النهر ويمهدون الأرض، واخترعوا الشادوف الذي يرفع الماء من النهر المنخفض إلى الضفة العالية، ويقال أن الإله ازوريس هو الذي اخترعه شخصيا، وهو اختراع يليق بالفعل بالآلهة ، ثم اخترعوا المحراث والنورج والساقية، كانوا هم رواد الثورة الزراعية الأولى التي نقلت البشرية من مرحلة جمع الطعام إلى مرحلة انتاج الطعام، وقد القت مرحلة الزراعة بعشق الأرض في قلوب الفلاحين ، فعاشوا وماتوا وبعثوا وهم يقبضون على حفنة من ترابها، ومن هذه الحقبة ولدت ثقافة الطين، فالماء نسغ الحياة، حين يختلط بالتراب وينهض منهما الطين الذي استوى منه جسد الانسان، واكتشف المصريون أن الطين يكتسب صفة الثبات حين تمسه النار، ويكتسب لمسة الفن حين تشكله اصابع الانسان، كأنها عملية عكسيه، الإنسان الذي تشكل من الطين يعيد تشكيل الطين الذي مازال خاما، وقد خطى المصريون خطوة واسعة في عالمهم القديم عندما توصلوا لحرق الصلصال، فهي تعني انهم قد استقروا وتخطوا مرحلة الجوع اليومي واصبح لديهم فائضا من الطعام يحتاج إلى اوعية للتخزين، مروا قبل ذلك بمرحلة حفر الأوعية من الأحجار على صعوبته، أو حفرها في الخشب على ضيقها، كلها تحتاج إلى جهد، ولكن الفخار يحتاج إلى مهارة اضافة لذلك، فهو سهل الصنع ولكنه هش، يحتاج إلى مهارة يدوية وأيضا إلى نوع من التقدم الذهني، وقد نتج عن ذلك آنية من مختلف الاحجام والأشكال، آنية كبيرة واسعة تحتوي على خزين القمح السنوي، وصغيرة ودقيقة تحوي العطور وزينة النساء، ويحتاج مهارة تكنيكية لصنع افران للحرق ومهارة فنية لصنع طلاء عازل وتزينه بنقوش ورسوم، عملية ثقافية متكاملة في اطار حضاري اوسع.
ومثلما تحولت خامة الطين لتصير فنا، تحولت المعادن إلى أوان واسلحة وحلي باهظة الثمن، تحولت إلى فن، وتحولت الأشجار الخام ايضا إلى منحوتات وتماثيل وتوابيت جنائزية، فن، وكذا الأمر بالنسبة للأحجار التي تحولت إلى قصور ومعابد واهرامات، عمارة وسكن وفن، وحتى الكلمات، كلمات العامة والفلاحين والتجار في الأسواق، تم أخذها وتنقيتها واكتسبت هالة جديدة من البلاغة في كتاب الموتى وأناشيد اخناتون، هذه هي الثقافة بمعناها المباشر والمحسوس، أما بقية مكونات الثقافة الأخرى فتتركز في اللاوعي. لاوعي الجماعة، ولاوعي كل فرد بذاته.
شروط ثلاثة يجب أن تتوفر لأي ثقافة حتى تكتسب خصوصيتها، أولها: هو التواصل الثقافي، قدرتها على التوارث من جيل لآخر في مجتمع معين، مصر بلد تقليدي، لا يتوارث ثقافة الماضي فقط بل أنه مثقل بها، يعيش وسط غبار متصاعد يحجب عنه الرؤيا للأمام، عديد من المجتمعات استطاعت أن تتخلص من سلبيات ماضيها، وبدأت تنفتح على أفاق ثقافية جديدة، ولكننا اهملنا الكثير من الايجابيات مثل قيمة العمل والحاجة للابتكار ومواجهة المشكلات بدلا من الهروب منها، وتمسكنا بأشياء تخطاها العالم، فمازال قسم كبير منا يتمسك بقدسية الحاكم، وكيف أنه ابن الإله المنزه عن الخطأ ، وأنه لا يمكن عزله حتى وإن طغى وتجبر، ميراث فرعوني قديم اكتسى بعباءة اسلامية، ووجد سندا له في عدد من الأحاديث، وبينما كانت حناجر الشعب تزأر غاضبة في ميادين التحرير تطالب برحيل حاكم البلاد، كانت هناك فئة أخرى تتمسك ببقائه بدواعي دينية، وكانوا في الواقع يعبرون دون وعي عن ثقافة قديمة ترفض كل اشكال تداول السلطة واختيار الحاكم وفق اجماع شعبي، ثاني هذه الشروط هو عدم جيوب منعزلة في هذه الثقافة، أي لاتوجد حواجز طبيعية تفصلها او تبقي جماعات منها أسيرة العزلة، مصر بلد بلا موانع طبيعية أو حتى بشرية، لا توجد جبال تقسمها، كما أن هناك تشابها بين عناصرها البشرية الثلاث، وهي، على حد تقسيم علماء الاجتماع إلى فلاحين واقباط وبدو، هو أمر فقط بغرض الدراسة، لا يدل على تمايز عرقي حقيقي، ويشبه جمال جمدان مصر بأنها قرية صغيرة ، فيها شارع رئيسي هو النيل، ودوار كبير يجلس فيه العمدة هي القاهرة، غير ذلك فسكان القرية يشبهون بعضه البعض، وقلما يوجد بلد يوجد فيه وحدة للثقافة مثل مصر على الرغم من جوانبها المتخلفة، ثالث هذه العوامل يكمن في قدرة هذه الثقافة على التغير، فالثقافة المصرية تحمل في تجانسها مكامن للقوة ونقاط للضعف، القوة هي في قدرتها على امتصاص الثقافات الأخرى واحتواءها في داخلها، ولكن الضعف هو في عدم قدرتها على التجدد، وعدم القابلية لمواجهة التطورات المعاصرة، فمن الصعب الحفاظ على تقاليد الماضي وسط طوفان التكنولوجيا المعاصرة التي تبدل الأفكار وتغير العلاقات، لقد تبددت الفائدة التي كنا نجنيها من بعض العادات والطقوس الثقافية نتمسك بها، لذا فإن الثقافة العربية تعاني من الوهن، فهي تمر بحالة من الصدمة في مواجهة واقعا جديدا يتمثل في العولمة التي يجرف تيارها كل الثقافات التقليدية القديمة، نحن في أمس الحاجة للتعرف على الثقافات الجديدة ، وإلى قبول التحدي الذي تفرضه علينا، نحن في حاجة إلى ثورة تشبه ثورة الخليفة المأمون في الترجمة، إلى انفتاح فكري يوازيه عملا لا يهدأ، ربما نتملك طرفا من ناصية العلوم التي فاتتنا، ونتخفف قليلا من اثقال الماضي.