بقلم: محمد منسي قنديل
.. ابنتي رضوى عاشقة للعمل التطوعي، تجدها دائمًا وسط الأزمات المستعصية، وبين الناس المهمشين في مناطقهم العشوائية، وخلف كل مشروع طوباوي تعجز الإمكانات عن تحقيقه، وقد قادها هذا العشق ـ الذي لابراء منه ـ للعمل في العديد من المنظمات المحلية رغم ضعفها ومنظمات الدولية تهتم بحماية الطفولة رغم ما يحيط بها دوما من شكوك النظام الحاكم ، وأول اهتمامات هذه المنظمات هو التأكيد على أن ينال الأطفال الصغار حقهم الطبيعي من التعليم، فالطفولة تنتهي حين ينقطع الطفل عن المدرسة، وهناك توجه عالمي يؤكد ضرورة أن ينهي الأطفال دراستهم الابتدائية على الأقل داخل أسوار المدرسة مهما كانت الاسباب، وأن علينا أن نحوّلها من مدرسة طاردة إلى مدرسة مرحبة، ولكن كم مدرسة مرحبة يمكن أن توجد في مصر؟!
لهذا بدأت رضوى رحلتها الغريبة بين المدارس بدءا من القريبة منها للقاهرة وصول للنائية منها في أحراش الصعيد الجواني، لعلها تستطيع أن تحقق هذا الهدف. تقول: إنها أحست وكأنها تسير وسط كابوس لا نهاية له، وكلما تقدمت خطوة تعود بها السنوات إلى الوراء، فالمدارس التي يفترض أن ترحب بهذه البراعم الصغيرة هي أبنية قديمة ومتداعية لم يتم تجديدها منذ عشرات السنين، النوافذ بلا زجاج يقي الأطفال لسعات البرد ولفحات الحر، أو يحميهم من الطوب الذي يمكن أن يقذف عليهم من الخارج، ولا توجد دورات صالحة للمياه، فالأطفال يقضون حاجاتهم في أي مكان وبأي وسيلة، في العديد من المداس التي تم بناؤها حديثا تبنى دورات مياه في الادوار السفلى فقط تاركة للصغار مهمة صعود السلالم ونزولها عشرات المرات في اليوم الواحد. أما العلاقات التي تربط بين البشر في هذا المكان، فقد كانت مشكلة حقيقية، تقول رضوى إنها رأت المدرسين وهم يضربون التلاميذ بعنف وقسوة، كأنهم ينفسون بتلك العدوانية عن كل مشاعر الإحباط الموجودة في داخلهم، و ينتقمون من المجتمع الذي لم يعطهم حقهم في المرتب المرتفع الذي يطمحون إليه، وذلك من خلال الأطفال، الحلقة الأضعف التي يملكون السطوة عليها، ثم رأت التلاميذ الكبار وهو يضربون الصغار بنفس القسوة، التي تعلموها من مدرسيهم دون أن يكون هناك من يردع الكبار أو يحمي الصغار، ولكن الذي حزّ في نفسها حقًا، هو ما رأته داخل الفصول أثناء تلقي الدروس، لقد وجدت كل اثنين من التلاميذ يجلسان، بينما يقف تلميذ ثالث مستندًا إلى الجدار، وعندما سألت أحدهم: لماذا يقف هكذا؟ قال: إنه ينتظر دوره للجلوس في الحصة القادمة، هكذا أجابها طائعًا ومنكسرًا. تصوروا معي كيف يمكن أن يكبر هذا الطفل وقد بدأ حياته بكل هذا الخنوع وقلة الحيلة، كيف يمكن أن نتوقع أن ينشأ منه مواطن شاعر بالعزة والكرامة، عارف بحقوقه وواجباته، بينما بدأ حياته وقد أهدر أول حق من حقوق طفولته وهو حق التعلم بأسلوب لائق وكريم؟
أما اغرب ما رأته رضوى، ومثل أمامها حدثا مأساويا لا يمكن أن يحدث إلا في مصر حيث الموت سهل وقريب، تلك هي المدرسة المبنية على حافة النهر، فمن خلال برنامج المعونة الامريكية الذي كان مخصصا لبناء المدارس، كان لابد من مساهمة مجتمعية حتى تتم بناء المدرسة، كان لابد أن يقوم أحد سكان القرية بالتبرع بقطعة من الأرض، وكان القادرين على ذلك لا يستغنون إلا عن قطة الارض التي لا يريدونها أو التي تسبب لهم المتاعب، وهكذا تبرع احد سكان القرية بقطعة من الارض مناسبة لبناء المدرسة ولكن على الضفة الأخرى من النهر، وتم بناء المدرسة بالكامل ولكن كانت القرية بكل مافيها من سكان ومدرسين وتلاميذ على الضفة الأخرى من النهر، وفي كل صباح يكون على العشرات منهم أن يستيقظوا ويركبوا مركبا شراعيا يعبر النهر إلى حيث توجد المدرسة، ولأن الاطفال كثيري الحركة ولا يمكن السيطرة عليهم فهم يسقطون في الماء ومن الصعب انقاذهم في اللحظة المناسبة وهكذا في كل شهر يلاقي عددا من الاطفال حتفهم بالموت غرقا، ولا زالت رحلة الموت الصباحية مستمرة ومازال الغرقى الصغار يطفون على سطح النهر.
كيف نتحدث عن تعليم الديمقراطية، وقد مارسنا عليهم سلطان القمع والإذلال ووضعنا حياتهم على حافة الخطر منذ السنوات الأولى من اعمارهم؟ تقول لي رضوى: الأخطر من ذلك أن إحدى التلميذات قد أغمي عليها داخل المدرسة، واكتشف الجميع أن السبب في ذلك هو ضعفها وهزالها وشدة جوعها ، فقد كانت التلميذة من أسرة لا يتناول أفرادها الطعام إلا بنظام المناوبة، يأكل نصف أفرادها يومًا، ويقضون اليوم التالي بلا طعام حتى يأكل النصف الثاني، وهذا اليوم لم يكن يوم الطفلة في تناول الطعام. تحاول رضوى أن تواصل الحديث، فأقول لها مختنقًا: كفى يارضوى.. كفي يا ابنتي أرجوك.