بقلم: د. حسين عبد البصير
هرم سخم خت
فى عام 1952م، اكتشف الأثرى المصرى النابه محمد زكريا غنيم أمين جبانة سقارة، هرم الملك سخم خت (2603 – 2611 ق.م) – من ملوك الأسرة الثالثة – الذي لم ينته العمل فيه، خلف هرم الملك زوسر المدرج الشهير، فى منطقة سقارة، وقد أراد مشيده أن يكون صورة شبيهة من هرم الملك زوسر لكن لم يكتمل بناء هذا الهرم سواء فى داخله أو مصاطبه.
ويبدو شيئا محيرا للغاية أن يختفي من الوجود هرم، والأشد حيرة من ذلك هو اكتشافه، ففيم كان اختفاؤه وكيف كان اكتشافه؟ فالأهرام من الأشياء التى لا يعتقد فى اختفائها أو فقدها. عثر غنيم على جزء من السور الخارجى (السور الأبيض) الذي يشبه بدرجة كبيرة السور الخارجى الموجود فى مجموعة الملك زوسر الجنائزية فى سقارة، والذي طبق فيه النظام المعمارى المعروف باسم «المشكاوات»، (أو الداخلات والخارجات) والذي كان تقليدا لواجهة القصر الملكى التى كانت تتناوبها مثل هذه التشكيلات المعمارية فى هذه العصور المبكرة من تاريخ مصر القديمة. وفى 22 يناير 1952م، ظهرت المفاجأة فى الموسم الأول، وتأكد للمكتشف غنيم أنه ليس هرما عاديا، وإنما هرم مدرج. وفى يناير 1954م، بدأ البحث عن مدخل الهرم أسفل الحجرات السفلية للهرم، ونظرا لوقوع مدخل هرم الملك «زوسر» فى الناحية الشمالية منه، نظّف غنيم الرمال فى الجانب نفسه فى هرمه المكتشف، فوجده بناء شبيها. وفتح الهرم فى 9 مارس 1954م، واهتمت وسائل الإعلام العالمية والمحلية بالهرم الجديد ومكتشفه المصرى الدؤوب محمد زكريا غنيم.
ودخل المكتشف ممرا طويلا مملوءا بالرديم والأنقاض، فنظّفه، فوجد مئات من الأوانى الجنائزية من الأحجار الصلبة واللينة مرتبة فى طبقات على أرضية الممر، تشبه تلك الموجودة فى مجموعة الملك زوسر الهرمية، ثم عثر على آثار مدهشة مثل علبة مساحيق تجميل على شكل قوقعة ذهبية نادرة، وخرز من القاشانى، ومجموعة من الأوانى المختومة بأختام الطمى تحمل اسم صاحب الهرم الملك سخم خت، وأوان نحاسية وأدوات نحاسية وأدوات نحاسية وظرانية (زلطية) ووجد أسفل الهرم مخازن صغيرة عدة. وفى مايو 1954م، اشتد العمل صعوبة داخل الهرم ووصل غنيم إلى حجرة دفن الملك وقال عن تلك اللحظة:»عندما دخلنا وارتفع ضوء المصباح، شاهدت فى منتصف الحجرة تابوتا ضخما من الألباستر، فتحركت إليه، وكان أول سؤال يدور بذهنى: هل هذا التابوت سليم لم يمس؟». وجثا على ركبتيه فوجد التابوت فارغا، ولم يعثر على ما يؤكد أن بانى هذا الهرم قد دفن فيه. يقول غنيم عن تلك اللحظات الصعبة فى حياته:»إنه من الصعب علىّ أن أصف هذه اللحظات، خليط من الرهبة، والفضول، والشك … شعرت أن للهرم شخصية، وأن هذه الشخصية كانت مجسّدة فى الملك نفسه الذي بنُى من أجله الهرم، ولاتزال أصداء أنفاسه تتردد بيننا».
وبعد حوالي ثلاث سنوات فى 12 يناير 1959م تحديدا، وحين جردت عهدة زكريا غنيم الأثرية فى سقارة تمهيدا لتوليه إدارة المتحف المصرى فى القاهرة، وجهت إليه تهمة ضياع بعضها، وتحديدا الآثار التى اكتشفها فى هرم الملك سخم خت، فلم تتحمل نفس زكريا غنيم الأبيّة وقع الصدمة، فألقى بنفسه فى نهر النيل الخالد.
كنوز تانيس الذهبية
ثمة شعور بالرهبة واحساس بالجلال والعظمة ينتابانك وأنت تقترب من تانيس. فتحس عندما تلوح معالم تانيس من بعيد أنك تدخل إلى محراب التاريخ وأنك سوف تشاهد آثار مدينة كتب لها الخلود وأنك سوف تعيش بين رحاب وجنبات التاريخ، وتنفصل تماما عن أحداث ووقائع الحياة اليومية المعيشة فى مصر المعاصرة.
وتعد تانيس- أو صان الحجر- الموقع الأثرى الأكثر أهمية فى شمال شرق الدلتا، وعاصمة الإقليم التاسع عشر من أقاليم مصر السفلى فى العصر المتأخر (747-332 ق.م.)، وتقع فى مركز الحسينية فى محافظة الشرقية، وتبعد عن مدينة القاهرة حوالي مائتى وخمسين كيلو مترًا. وذكرت فى النصوص المصرية القديمة باسم «جعنت» وتعنى «المدينة التى بنيت فى الأرض الخلاء»، كما ورد ذكرها فى التوراة باسم «صوعن»، أما اسم «تانيس» فقد أطلقه عليها الإغريق نسبة إلى الفرع التانيسى، أحد أفرع نهر النيل السبعة القديمة، بينما أطلق عليها العرب اسم «صان» تحريفا عن الأصل المصرى القديم، ونظرًا لكثرة الأحجار بها أضافوا إليها الحجر، فأصبح يطلق عليها اسم «صان الحجر» إلى الآن.
وتعتبر تانيس من أهم المواقع الأثرية فى الأرض المصرية. وكانت عاصمة للاقليم التاسع عشر من أقاليم مصر السفلى، وإحدى مدن مصر القديمة الرئيسية، وإحدى عواصم مصر المهمة فى دلتا النيل المصرية. وبرزت أهمية تانيس مع نهاية عصر الدولة الحديثة وبداية عصر الانتقال الثالث؛ نظرًا لاتخاذها عاصمة لمصر فى عصر الأسرتين الحادية والثانية والعشرين المضمحلتين سياسيًا والغنيتين أثاريًا وتاريخيًا.
وأجرى الحفائر بها أثريون عظام أمثال أوجست مارييت بين الأعوام 1860-1880م، ووليام فلندرز بترى بين الأعوام 1883-1886م، وبيير مونتييه بين الأعوام 1921-1951م. وكان عام 1939م، لحظة عظيمة الأهمية فى تاريخ مصر القديمة، حتى اكتشف الأثرى الفرنسى»بيير مونتييه» مقابر جبانة عصر الانتقال الثالث الملكية الغنية، من الأسرتين الحادية والعشرين والثانية والعشرين (1040-783ق.م.) فى تانيس. وتدفق عدد كبير من الآثار الساحرة من تلك المدينة التى كللها المجد والعظمة فى مصر القديمة، من خلال حفائره التى قام بها بين الأعوام 1939-1946م. وكان هناك سبب كبير أثر بالسلب على نتائج حفائره، ألا وهو نشوب الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) فى توقيت الاكتشاف، مما جعل الحدث السياسى بتبعاته الحربية يصم الآذان عن اكتشافات تانيس المذهلة، وجعل اكتشافاته المهمة لا تحظى بمكانتها الإعلامية التى كانت تستحقها آنذاك.
ولم يدخل المكتشفون الفرنسيون المقبرة الأولى من مدخلها الأصلى، وإنما من السقف. وبنيت حجرة الدفن من كتل من الحجر الجيرى والجرانيت الوردى، وزينت الجدران بنقوش من « كتاب الموتى» و»كتاب الليل»، وهما من الكتب الدينية المهمة فى مصر القديمة. واحتوت المقبرة الدفنة الغنية التى تخص الملك أوسركون الثانى بكل كنوزها الفاتنة من الحلى الذهبية والتمائم والأوانى الذهبية والفضية.
ودخل المكتشف المقبرة الثانية من السقف أيضا، فى يوم 17 مارس 1939م، الذي أطلق عليه اسم:»يوم العجائب المثيرة لألف ليلة وليلة». ومن خلال دخوله حجرة صغيرة ملونة، ثبت أنها تخص الملك بسوسنس الأول (1034 -981 ق.م.) – المقبرة رقم «3» فى تانيس- وجد نفسه محاطا بأكوام رأسية من الأثاث الجنائزى.
واحتوت المقبرة أيضًا على دفنة الملك شاشانق الثانى (895-؟ ق.م.) محاطاً بجسدى الملكين سى آمون (968-948 ق.م.) وبسوسنس الثانى (945-940 ق.م.). ووصل إلى حجرة دفن الملك بسوسنس الأول التى لم تمس، فوجد بها الأوانى الكانوبية وأشكال الأوشابتى والأوانى الذهبية والفضية والتابوت الذي أخذ من دفنة الملك مرنبتاح (1212-1201 ق.م.) – ابن الملك رمسيس الثانى- من مقبرته في وادي الملوك. وكانت الحجرة الأخرى التى على الجانب الآخر مخصصة فى الأصل لدفن أم الملك بسوسنس الأول، الملكة موت نجمت، واحتوت الدفنة الغنية للملك آمون إم أوبت (984-974ق.م.). وما تزال المفاجآت تذهل مونتييه وبعثته من الأثريين، فوجد حجرة أخرى احتوت تابوتا فارغا للقائد عنخ إف إن موت. ثم أكمل العمل فى 13 فبراير 1946م، الأثرى الفرنسى ألكسندر ليزين فى الدفنة التى لم تمس لقائد عسكرى آخر، هو ونج باو إن جدت وكانت قليلة الحلى والأثاث الجنائزى.
ومنذ ذلك الحين لفتت تانيس أنظار العالم بآثارها الرائعة والجميلة والكثيرة المستخرجة من مقابرها حتى أن هناك قاعة كاملة خصصت لروائع تانيس بالمتحف المصرى بالقاهرة لا تقل روعة وجمالاً بأى حال من الأحوال عن آثار مقبرة الفرعون الذهبى توت عنخ آمون المحفوظة بنفس المتحف. فمن بين تلك الآثار، يجد المرء توابيت ومصنوعات ذهبية وحلى ومشغولات من اللازورد والأحجار الكريمة مثل الأقنعة الجنائزية الخاصة بعدد من ملوك تلك الفترة مثل القناع الذهبى الأشهر للملك بسوسنس الأول. فزيارة واحدة للمتحف المصرى بالقاهرة أو لمدينة صان الحجر نفسها كفيلة بأن تجعل المرء يرجع بالزمن إلى الوراء آلاف السنين ليعيش بين مجد وكنوز مدينة تانيس الذهبية.
ومازالت الحفائر الأثرية فى تانيس مستمرة وتثير الدهشة. فقد كشف الأثرى الفرنسى فيليب بريسو منذ فترة موقع البحيرة المقدسة الخاصة بمعبد الإلهة موت (زوجة الإله آمون وأم الإله خونسو اللذين يشكلان مع الإله آمون ثالوث مدينة تانيس المماثل لثالوث مدينة طيبة «الأقصر الحالية»؛ مما جعل من تانيس بمثابة طيبة الشمالية) فى حالة جيدة على مبعدة حوالي 12 م من سطح الأرض. وبلغت مساحة البحيرة 12 م عرضًا و15 م طولاً وحددت بأحجار ملونة من الحجر الجيرى. وهذه هى البحيرة الثانية التى تكتشف بتانيس بعد البحيرة المقدسة الخاصة بمعبد الإله آمون (المعبود الرئيسى للمدينة) فى عام 1928 واكتشفت فيما بعد مقابر الملوك بالقرب منه. فهل تخرج لنا حفائر المواسم القادمة مقابر الملكات بالقرب من المعبودة موت وفى رحاب معبدها، كما حدث مع الملوك والمعبود آمون ومعبده من قبل؟ نأمل ذلك حتى تعود تانيس وآثارها الرائعة إلى أذهان العالم أجمع مرة أخرى.
مقبرة الفرعون الذهبي
تعددت المحاولات لاكتشاف مقبرة الفرعون الصغير توت عنخ آمون في وادي الملوك، فقد اكتشف الأمريكى تيودور ديفيز بين عامى 1905-1908م، إناء صغيرا من القاشانى منقوشا عليه اسم الملك توت عنخ آمون فى المقبرة رقم «54» في وادي الملوك، فاعتقد أنها مقبرة الملك توت. ثم اكتشف حجرة وحيدة صغيرة فى المقبرة «58» في وادي الملوك، وجد فيها خبيئة صغيرة من كسرات ذهبية منقوشة باسمى الملكين توت عنخ آمون وآى، فاعتقد أيضا أنها تخص الملك توت. وظل البحث عن مقبرة الفرعون الصغير مستمرا إلى أن جاء الإنجليزى هيوارد كارتر (1874-1939م)، الذي يعتبر من أشهر من عملوا فى حقل الآثار المصرية؛ نظرا للنجاح الهائل الذي حققه بالعثور على مقبرة الفرعون الذهبى الأشهر الملك توت عنخ آمون فى صبيحة اليوم الرابع من شهر نوفمبر عام 1922م.
فى عام 1917م، حصل اللورد هربرت إيرل كارنارفون الخامس (1866-1923م) على موافقة مصلحة الآثار المصرية بالتنقيب في وادي الملوك. وكان حلم كارتر العثورعلى مقبرة الفرعون الصغير توت عنخ آمون بين مقابر وادي الملوك، فطلب اللورد كارنارفون من كارتر أن يجرى الحفائر لحسابه فى الوادى، فقد كان الاثنان على يقين من أن مقبرة الفرعون الصغير لم تكتشف بعد، وأن الافتراضات التى ادعاها تيودور ديفيز غير صحيحة، وأن المقبرة ما تزال فى بطن الوادى لم تبح بأسرارها بعد، وكان من بين ما أكد ظنهما أن مومياء الملك الصغير لم تكتشف فى أية خبيئة مومياوات ملكية، مما يعنى أن المقبرة ما تزال سليمة لم تكتشف بعد. وبدأت الحفائر فى العام نفسه، ومضى دون أية نتائج مشجعة، واستمر الحفر خمس سنوات أخرى دون نتائج مرجوة. يقول كارتر مفصحا عن تمنياته الداخلية للكشف عن الحلم الذي ظل يراوده طويلا: «نعمل فى شىء لم يمس، لذا فلا أحد يعرف ما الذي ربما يجىء، أتمنى مئات المرات شيئا جيدا…».
وبعد طول عناء وسنوات عدة من الحفر المستمر، وفي يوم 4 نوفمبر 1922م، اكتشف كارتر الدرج الحجرى أسفل مدخل مقبرة الملك رمسيس السادس (المقبرة رقم 9 فى وادي الملوك). وأثبت هذا الدرج أنه أولى حلقات السلسلة التى قادت إلى مدخل المقبرة التى حملت رقم «62» بين مقابر الوادى العظيم.
مقبرة جميلة الجميلات
حملت منطقة وادي الملكات فى مصر القديمة أسماء عدة مثل «الوادى العظيم» و»الوادى الجنوبى» و»تا ست نفرو» ويعنى الاسم الأخير «مكان الجمال»، وشاع أكثر من الاثنين السابقين، وأسس فى البداية كجبانة مخصصة لدفن نساء الطبقة المالكة من المجتمع المصرى القديم فى بداية عصر الدولة الحديثة على الشاطىء الغربى لنهر النيل المواجه لمدينة الأحياء فى شرق طيبة (الأقصر الحالية). ولم تبدأ الحفائر العلمية المنظمة إلا فى عام 1903م، بوصول الأيطالى الشهير «إرنستو سيكياباريللى» (1856-1928م) – مدير المتحف المصرى فى تورينو- وحصوله على التصريح بالتنقيب فى الوادى من مصلحة الآثار، فنجح فى اكتشاف مقبرة الملكة الفاتنة نفرتارى، جميلة الجميلات. وتعتبر الملكة نفرتارى الزوجة الرئيسية لفرعون مصر الأشهر الملك رمسيس الثانى العظيم (1290-1224 ق.م.)، وأم ستة من أهم أبنائه، وحفر لها زوجها الملك هذه المقبرة الرائعة، من فرط حبه لها. وبلغ من حبه الشديد لزوجته فائقة الجمال أن أنشأ لها معبدا فى الصخر الطبيعى فى منطقة «أبو سمبل» إلى جوار معبده الكبير.
ومنذ العثور على هذه المقبرة الجميلة، اعتبرت واحدة من أجمل المقابر التى أبدعتها مخيلة المصريين القدماء فكرا وأداء، فبلغت الرسوم المصورة على جدرانها وممراتها 520 مترا مربعا من الجمال الساحر. وحين اكتشفها سيكياباريللى فى عام 1904م، فتح الباب ليطل العالم على واحدة من أجمل الإبداعات الفنية فى العالم عبر تاريخ الفن البشرى الطويل، وعلى واحدة من أجل وأجمل المقابر القادمة من مصر الفرعونية ذات الرسوم التى تخلب الأبصار وتسحر العقول بجمال مناظرها وتنوع موضوعاتها ونقاء وصفاء ألوانها. وأصبح من المفضل عند عشاق الجمال الراغبين فى نشدان البهجة زيارة هذه المقبرة للنهل من جمالها الأخاذ، وأصبح الجمال علامة وعنوانا عليها وعلى صاحبتها، جميلة الجميلات، كما كانت الحال فى حياتها الأولى المليئة بالجمال والحب والسعادة والعشق، وتحول الطموح الفني الذي راود وساور صاحبتها ومبدعيها إلى حقيقة واقعة واضحة كوضوح الشمس فى كبد السماء فى نهار مشمس رائق العذوبة.