بقلم: محمد منسي قنديل
هذا هو تاريخنا مع القدس، نفرط فيها بسهولة، ولا نستردها إلا بعد طول عناء، وهذه المرة ربما تكون الأخيرة فلن نستطيع استعادتها ، إنها مدينة السلام، وهي ايضا مدينة الدماء، فقد عجنت احجار اسوارها بدماء مختلف الاجيال، وعز عليها السلام لسنوات طويلة، وعكست قبة الصخرية الذهبية مشاهد الصراع الذي دار في احيائها وارتفعت عليها رايات الغزاة والفاتحين، وكل من امتلكها يعتقد أنه قد امتلك صرة العالم، تاريخها دائم الانقلاب، وطوال عمرها الذي يبلغ أكثر من خمسة آلاف عام لم تدم لأحد، لا توجد مدينة في العالم تقلب عليها السادة مثلما حدث لمدينة القدس، لم يوجد لها سيد دائم مهما طال تاريخ امتلاكه لها، ورغم أننا كعرب كنا اطول هؤلاء السادة عمرا في امتلاك القدس وتعميرها، ولكننا كنا اوهنهم قوة، لقد وهبنا المدينة جزءا من ضعفنا، لذلك لم تكن مستعصية على السقوط، نحن الذين هيئنا الظروف لسقوطها الأخير، نحن الذين اصررنا في كل مرحلة تاريخيه على دعوة اليهود للدخول إليها، في كل مرة كان يحرم عليهم دخولها كنا نحن كعرب ومسلمين الذين نلح في دعوتهم ونقوم بحمايتهم، مرة أولى وثانية حتى الدعوة الثالثة عندما دخلوها واستوطنوها وامتلكوها.
كانت الدعوة الأولى في باكورة الفتح الإسلامي، فقد كانت اسوار القدس منيعة أمام الجيوش العربية، فرغم أنها فتحت فارس والشام عبر معارك ضخمة، ولكن كان للقدس مهابتها، ولم تكن للعرب خبرة كبيرة في اختراق الاسوار، وعندما استطال الحصار وادرك بطريرك المدينة أن هؤلاء العرب لن يعودوا للصحراء خاطب قائدهم أو عبيدة بن الجراح، أكد له أنه لن يسلم المدينة إلا للخليفة عمرو بن الخطاب شخصيا، وكان عليهم أن ينتظروا ما يقارب الشهر حتى يأتي الخليفة معفرا بالرمل على ظهر ناقته الوحيدة ويتسلم منه مفاتيح المدينة ويكتب لهم عهدا بالأمان، كل يبقى حاله ويحافظ على دينه شريطة ان يدفع الجزية، وكان الكاسب الأكبر من هذه العهدة العمرية هم اليهود، فقد سمح لهم بدخول المدينة التي حرمها عليهم الرومان ، كان المسلمون هم من وضعوا النهاية لشتاتهم الطويل، فلم يكن اليهود من بناة القدس، ولكن بناه اجداد العرب من الكنعانيين، ولكن اليهود عبروا نهر الفرات واستقروا فيها، ثم تغلبوا على الكنعانيين ليقيموا أول دولة لهم تحت حكم الملك سليمان وابنه داود، حتى الآن لايوجد ما يثبت هذه الروايات غير الكتب المقدسة، التوراة ثم القرآن من بعدها، لا توجد آثار تؤكد وجود ما يطلق عليه هيكل سليمان، ولكن نقوش تل العمارنة في مصر تتحدث عن قبيلة مشاغبة في الشمال، ليس من الضرورة أن يكونوا يهودا، ولكنهم سكنوا المدينة وأثاروا الكثير من المتاعب للرومان حتى حرموها عليهم، وتمتعوا بالأمان المطلق تحت ظل العرب حتى هاجمها فرسان الصليب من أوربا المتحفزة.
وجاءت الدعوة الثانية لليهود من السلطان الناصر صلاح الدين، كان سقوط القدس في يد الصليبيين في أواخر القرن الحادي عشر مروعا، فقد قاموا بمذبحة ضد سكان المدينة من المسلمين واليهود، قتلوا عدة آلاف ولم يبقوا إلا على المسحيين فقط، وحرم دخول المدينة على اليهود لأكثر من مائة عام حتى جاء صلاح الدين، كان قائدا فذا، ولكنه قضى الشطر الاول من حياته وهو يحارب في الجبهة الخطأ، يقاتل اعدائه من الأمراء المسلمين، كانت هذه مأساته وموطن ضعفه، فقد كان مهوسا بالقضاء على بقايا الفاطميين في مصر، وأكثر هوسا بالاستيلاء على المدن لم تعد خاضعة للعباسيين، يحكمها أمراء مغامرون من حلب إلى الموصل إلى دمشق وغيرها من المدن الصغرى، وطوال الوقت كان يتجنب الاصطدام بالصلبيين رغم أنه يدرك أنهم العدو الرئيسي، ففي بداية عهده حاصر الاسطول الصليبي مدينة دمياط لمدة سبعين يوما، ولولا العواصف، ولولا أن الحدادين في دمياط واصلوا الليل بالنهار حتى صبوا أضخم سلسلة من الحديد، سدوا بها فوهة نهر دمياط لتمنع سفن الصلبيين من الدخول للمدينة، لولا ذلك لغزي صلاح الدين في عقر داره، لذلك فقد كانت المرحلة الأولى من معاركه حرثا في الماء، نوعا من غض البصر عن العدو الحقيقي الذي كان يهاجم القرى والرعاة ويقتل قوافل الحجيج ويفرض قراصنته على الشواطئ ويهدد بالوصول إلى مكة والمدينة، لكنه رأى لحظة الحقيقة حين اقترب الخطر من لحمه، بعد ان هاجم الصليبيون قافلة حجاج كان فيها أخته شخصيا، بدأ جهاده ضدهم، ودخل سلسلة من المعارك بلغت قمتها في حطين.
في حطين انكسر العمود الفقري للوجود الصليبي في فلسطين، قتل زهرة فرسانهم وأسر اشهر ملوكهم ولم يعودوا قادرين على خوض أي معركة كبرى دون مدد من أوربا، ولكن ظلت للقدس مهابتها، وقف صلاح الدين تحت اسوارها عاجزا عن أن يخوض معركته حتى النهاية، لم يقدر على حرقها أو دكها بالمجانيق، كانت مليئة بالمقدسات، وحافلة بالبشر من مسلمين ومسيحيين، وبعد ايام من الحصار المضنى توصل إلى اتفاق سلمي للاستيلاء عليها، وافق على خروج الصلبيين منها مقابل فدية صغيرة لكل فرد وعلى تعهد منه بعدم قتاله مرة أخرى، ودخل المدينة منتصرا، ولكن الكاسب الأكبر هذه المرة أيضا كان اليهود، فقد سمح لهم السلطان بالدخول إليها بعد ان حرموا منها أكثر من قرن من الزمن.
اما الدعوة الثالثة، ولعلها الأخيرة، فقد قدمناها نحن من خلال تخاذلنا وضعفنا، لم ندعو اليهود من سكان اسرائيل لدخول القدس فقط، ولكننا قدمناها لهم بكل مافيها من آثار ومقدسات مسيحية واسلامية، تنازلنا عن جزء مهم في التراث الانساني لم يكن من حقنا التنازل عنه، بعد هزيمة الجيوش العربية عام 48 تنازلنا مرغمين عن نصف المدينة، ولم يؤرقنا ذلك كثيرا لأننا لم نفعل الكثير لاسترداده، مجرد خطب وشعارات مرفوعة وعدة انقلابات عسكرية، ولكن احوال العرب ظلت على حالها، تحكمها الأنظمة غير الشرعية ذاتها، وتدافع عنها جيوش التشريفات، وتستمرئ العيش في وهدة التخلف، وبعد هزيمة 67 فقدنا النصف الثاني من المدينة بما فيها المسجد الاقصى وقبة الصخرة، كنا اضعف بكثير مما ينبغي، وأكثر تخلفا، واكتشفت اسرائيل أنها حصلت على غنيمتها الكبرى، بعد ذلك لن يستطيع أحد يمنعها من دخول المدينة بل أنها هي التي اصبحت تمنع الآخرين، ولا تسمح لأهلها من المقدسيين العرب بالإقامة فيها لا بتصاريح مؤقتة، وأخذت تسعى للتخلص منهم بأي ثمن لأنهم يذكرونها بالماضي حين كانوا هم السادة، القدس الآن تتعرض لأكبر عمليه جراحية، تهدف لإزالة ملامح وجهها التاريخي القديم واخفاءه خلف قناع يهودي جديد، والاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل هو جزء مهم من هذه العملية الجراحية، وهي تدرك أن بقية الدول سوف تتبعها حين ينظرون فلا يجدون إلا القدس اليهودية امامهم.
أنه حكم الأمر الواقع، واقع نحن فيه الاضعف، ولا نستطيع أن نلوم غيرنا على ضياع القدس، فنحن الذين قدمنا الدعوة أثر الدعوة لليهود بأريحية مخزية، حتى قبلت اسرائيل تلك الدعاوي المتكررة والتهمتها كلها ولم يعد هناك قدس بالنسبة لنا إلا في كتب التاريخ.