بقلم: درويش صايغ
قالت له المسؤولة في إحدى دور رعاية المسنين حيث تقيم زوجته منذ أكثر من عامين : – أنت تأتي هنا كل يوم ولمدة ثلاث أو أربع ساعات يومياً ، وهي بالتأكيد لم تعد تعرفك أو تعرف من أنت !
وأجابها ذلك الرجل : أعرف ذلك جيداً ، أعرف أنها لم تعد تعرف من أنا ولكني أنا مازلت أعرف من هي !
كانت ثمة موسيقى تنساب من خلال مذياع وكلمات ترددها تلك الأسطورة الخالدة أم كلثوم وكانت تعيد ترديد كلمات أحمد رامي :
إن مر ع الخاطر ذكراه تنزل من الوجد دموعي
ثمة كلمات تتناسق ، في لحظة ما ، مع ذاتها ومع مفردات بذات الايقاع وبنفس التراكم الأبجدي فتظهر مجموعة من أحاسيس إنسانية عميقة في سموها رائعة في وصف لحظة حياتية ممعنة في التغرد والانطلاق . أم كلثوم تعيد ذلك المقطع من الأغنية بكثير من التألق والألم وتبحر في مقامات موسيقية تتراقص لها الحروف وقد هزّها الوجد واعتصرها شوق اللقاء بعد أن بدأت أم كلثوم رائعتها تلك بكلمات متسائلة ، معذبة ، تختصر زمن جميل ، وهي تفاجئنا بسؤال معلق لم يستطع أحمد رامي أن يجد له جواباً وقد تساءلت لأكثرة من مرة ، ورددت مفردات موسيقية ملائكية :
جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما أرتاح
ترددت كلمة « ليه « مرات ومرات ومرات ، نهاية سؤال ليست له إجابة ، نهاية بداية سوف نتوقع منها الكثير وأحمد رامي سوف يختصر تاريخ الحب وسوف يكتب تاريخاً جديداً لشوق يتأجج ولمعاناة تتقد بعد لقاء مستحيل ليتجدد ذلك الشعور بالمواجهة وبلقاء الصدفة ، «ليه « سوف ترافقنا وتسري في دمائنا ونحن نتابع ذلك المستمع الذي عصفت به ذكريات حب مستمر ومتجدد وأخذت دموعه تنساب على خده وهو يردد مع أم كلثوم مرة أخرى
« إن مر ع الخاطر ذكراه تنزل من الوجد دموعه» كان يتساءل بينه وبين نفسه كيف أستطاع أحمد رامي أن يختصر الشعر وأن يكثف المعنى فتنطلق معه تلك المفردات التي أبكته وانطلقت به بعيداً عن الأرض ، يحس بنفسه يسمو كملاك تحرر من قيد يربطه بزمن أو بمكان . اللحن يسري بدمه فيشعر بغيبوبة نقية كما لو أنه يصعد إلي سماء سوف تحتضن كل مشاعره وكل أحاسيسه التي يعيشها ثانية ثانية ولحظة بلحظة وكل اللحظات الممكنة .. « ليه « في مطلع الأغنية ثلاثة حروف متلاصقة هي قاموس لكل المفردات اللغوية ولكل سؤال سوف ينطلق بحثاً عن جواب أستطاع أن يعبّر عن نفسه وعن ذاته وقد بلغ به الايقاع الموسيقي منتهى النشوة وأستطاع رياض السنباطي أن يرسم بألوان معبّرة لوحة موسيقية لكلمات متسلسلة في التعبير وفي صدق الأحساس لمشاعر يعيشها الشاعر ويعبر عنها الملحن بموسيقى تعيش بها أم كلثوم وترسلها صلاة ملائكية بمساحة سماء سوف تتسع لتوارد خواطر الشاعر وهو يسبك كلمات يمسك بها الملحن ويمنحها من روحه ومن أحساسيسه لتبلغ بذلك الرجل منتهى مراحل الوجد وقد صاغها أحمد رامي بصورة متفردة في التعبير عن الذات وعن الأحساس بالحب :
ياللي هواك في الفؤاد عايش بظل الوداد
والملحن في هذا المقطع أستطاع أن يشعل شحنة الحب الكبيرة كما جاءت بعدد الكلمات ، وأنطلق بلحن ملئ بالشجن وبالمناجاة وبإحساس عميق بحب يملأ الكون بعد أن أستطاعت أم كلثوم التعبير المعجز بمقام النهوند وتغريداته الطربية الأصيلة وبلغت قمة في الأداء السلس جعلت ذلك الرجل الذي تجرحه الكلمة ويذيبه اللحن ينطلق مع ذاته ويعيد ترتيب الكلمات واحدة واحدة ويستجمع اللحن فقرة فقرة ويمضي في طريقه يبحث عن سبيل يستطيع به أن يعبّر بها عن نفسه وعن مجموعة كبيرة من الأحساسيس والمشاعر المتراكمة لديه هو ، بهذه الأغنية ، أسير الكلمة وصريع اللحن وضحية الصوت الذي أنطلق متحدياً تاريخ الغناء . ربما كان ذلك الرجل في هوة عميقة من عواطف يمر بها لأسباب مختلفة تجعل منه في لحظة ما يقع تحت سنابل الكلمة التي يسمعها واللحن الذي يشجيه . أنها فترات في حياة الإنسان تكون فيها الأمور مختلفة وتكون فيها الأشياء مميزة ولو إلي حين . ليس من السهل علينا أن نتخلى عن ذكرياتنا وأن نمحو تاريخنا الذي عشناه بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات . تكون الموسيقى في بعض المواضع من حياة الإنسان وكأنها علاج وصفه طبيب نفساني استطاع أن يسبر أغوار نفس ما ، ذلك الطبيب أستطاع أن يضع أصبعه على موضع الضعف لدى ذلك الرجل وهو لم يذهب إليه ليستشيره ، فهو يعرف طريقه جيداً ويعرف حدود ذاته بكل وضوح ، ولكنه قد تناسى نفسه مع « جددت حبك ليه « فهو كمن عبر نفقا ليصل إلي الطرف الآخر من شاطئ الحياة ، وهو مايزال يعيش كلمات أحمد رامي التي يشعربها وكأنها تصفه هو شخصياً ، فهل كان أحمد رامي يعلم أن ثمة من سوف يعيش كلماته بعد أكثر من ستين عاماً على ولادتها ، أم هي صورة زيتية لأحمد رامي ذاته أستطاعت أن تستنسخ ذاتها في حياة رجل آخر وقد حفرت تلك الكلمات أخاديداً من الحب المستمر منذ أن تعرف إلي تلك الكلمات وإلي ذلك اللحن قبل سنوات طويلة وهو يعيش تلك المنظومة المتكاملة من كلمات ولحن وغناء وكأن كل آلهة الجمال لدى كل من مرّ على هذه الأرض تحفظها وتصونها وترددها في الأجواء السماوية لتعيش مع الإنسان كالماء والهواء ! «جددت حبك ليه وبكل ذلك الزخم المتألق كلوحة فنية أو أيقونة نفيسة علّقت وبكل جدارة على صدر كل عاشق متيم مارس الإحساس بالحب وعاش لحظات عشق في يوم من الأيام . ذلك الرجل مايزال ، وهو يعيش تلك الأغنية يعبر طريقاً يسير فيه بكل هدوء وبكل إنطلاق روحي وقد وصلت الأغنية إلي خواتمها بعد رحلة إبداع عاشتها أم كلثوم لتصل إلي نقطة النهاية وهي تعلن صراحة وبكل وضوح وعلى أمتداد الكون كله .
والعمر إيه غير دول إن فات على حبنا سنة ورا سنة حبك شباب على طول
ولعل من نافل القول ومن باب الفخر لكوكب الشرق أن هذه الأغنية المعجزة لم يستطع أن يقترب منها أو أن يؤديها أي مغن أو مؤد أو مطرب على أمتداد الوطن العربي . أنها رحلة أعجاز تكاملت وأنتهت حيث وقف ذلك الرجل بعد أن تسامى به الوجد ، وتلفت حوله وتذكر كلمات أغنية أخرى لأحمد رامي وهي تصب في نفس الاتجاه وبنفس الهدف ، أنها قصة الأمس « أنها قصة حبي».