رغم مرور أكثر من أربعة عقود على هجرتي من مصر مازالت مصر تعيش داخلي، كثيرا ما أستحضر مشاهد ـ قد تبدو عادية ـ حدثت أثناء معيشتي في المحروسة، أستحضرها و أبتسم لطرافتها و أحاول من خلالها أن أجد وصفا لشخصية المصريين، وصف محايد لا يتجنى على أهل بلدي و لا يمدحهم بطريقة إنحيازية. إليكم بعضا من هذه المشاهد و التي أعتقد أنها تدل على أن المصريين يتصفون باللامبالاة و الاستنطاع* الممزوجين للأسف بخفة الدم.
ترماي المـَـكـْس:
أجلس على مقهى أمام محطة الترماي في منطقة المكس الشعبية بالإسكندرية، العديد من الناس ينتظرون الترماي. كعادتي أحملق فيما حولي، أنظر للناس و أفلسف أمور الحياة. تأتي الترماي بعد إنتظار ليس بالقصير، تهديء من سرعتها لكني لا أدري لماذا تكمل سيرها و لا تقف، يندفع بعض الشباب من المنتظرين و يقفزوا متعلقين بالترماي أثناء سيرها. أغلب المنتظرين من كبار السن أو ثقلاء الوزن لا يمكنهم القفز مثل الشباب ينظرون بحسرة إلى الترماي، يسرع أحد الأولاد خلف الترماي و يجذب الحبل المتصل بالصاري الطويل الملامس للسلك العلوي الذي يزود الترماي بالكهرباء اللازمة لتشغيلها. تنفصل الكهرباء فتقف الترماي على بعد عدة أمتار من المحطة. يصعد جميع المنتظرين براحتهم.
ينزل محصل التذاكر و يجذب حبل الصاري معيدا ملامسته للسلك العلوي فيوصل الكهرباء ثم يصعد للترماي.
من مقعدي على المقهى ألاحظ أمر غريب فما عدَى الركاب الذين ظنوا أن الترماي ستفوتهم لم ينفعل أحد، كل هذا حدث دون إنفعال من أي شخص، السائق فـَوَت المحطة كأنه أمر روتيني يفعله في جميع الأوقات، و عندما إنفصل التيار لم ينزعج أو ينفعل، الولد الذي جذب الحبل و فصل التيار فعلها بحبور كأنها لعبة يمارسها كل يوم، محصل التذاكر أعاد توصيل الكهرباء بمنتهى الهدوء و الروتينية.
و تستمر الترماي في سيرها.
الموظف المؤمن:
في ثمانينات القرن الماضي كانت هناك طريقة غريبة بعض الشيء لإجراء المكالمات الهاتفية الدولية من مصر، راغب المكالمة كان يشتري بطاقة إتصالات من مكتب السنترال و يذهب بها إلى إحدى كبائن المحادثات الهاتفية حيث يكشف رقم مغطى مطبوع على البطاقة ثم يُدْخِل هذا الرقم إلى الهاتف، بعدها يرد عليه تسجيل يطلب منه إدخال رقم الهاتف الذي يرغب في الحديث إليه. تستمر المكالمة لعدة دقائق حسب قيمة البطاقة و ثمن دقيقة المكالمات للبلد المطلوب.
كنت أنتظر في مكتب السنترال لأحد شئوني، و كعادتي أتفرج على الناس حولي متأملاً. جاء رجل يحمل بطاقة إتصالات سبق له شرائها و توجه إلى موظف السنترال، قال له:
ـ هذه البطاقة لا تعمل، أدخلت الرقم المطبوع و لم أتلقى ردا.
نظر الموظف إلى البطاقة ثم إلى الرجل و سأله بشيء من الحدة:
ـ البطاقة لا تعمل!! هل قلت “بسم الله الرحمن الرحيم” قبل إدخال الرقم؟
فوجئ الرجل بالسؤال، أجاب بعد شيء من التردد:
ـ لا، لم أقلها.
نظر له الموظف شذرا أمره قائلا:
ـ إذهب، قل “بسم الله الرحمن الرحيم” قبل إدخال الرقم و ستعمل البطاقة.
إنصرف الرجل متباطئاً و على وجهه ملامح الحيرة، دخل الكابينة و أنا أراقبه، أعتقد أنه لم يقل “بسم الله الرحمن الرحيم” فقط، لكنه قرأ الفاتحة كاملة و معها عدية ياسين لأنه مكث في الكابينة لعدة دقائق.
البطاقة مازالت لا تعمل، عاد الرجل إلى الموظف لكنه لم يجده، كانت الساعة الثانية و الموظف قد إنصرف.
قرآن في رمضان:
منذ أكثر من أربعين عاما إعتاد سكان الإسكندرية في شهر رمضان أن يجمعوا نقودا من بعض و يقيمون صوانا في حَيــِهـِم يستضيفون فيه مقرئين للقرآن، و لا مانع في أحد الليالي أن يكون المقرئ أحد المشهورين من مقرئي الإذاعة يشجي بقراءته الخاشعة و صوته الرخيم مئات من المستمعين سواء داخل الصوان أو خارجه عن طريق مكبرات الصوت.
في أحد هذه الليالي الرمضانية كنت مارا بعد صلاة العشاء بجوار صوان ممتلئ على آخره بالمستمعين، سألت فعرفت أن المقرئ هذه الليلة هو أشهر مقرئي مصر و أعذبهم صوتا. نظرت داخل الصوان فلم أجد مكانا لي، قررت البقاء لعدة دقائق واقفا في المدخل كي أستمع و أستمتع. كان هناك العديد من المستمعين مثلي يقفون في المدخل. بدأ المقرئ في تلاوة سورة الرحمن المعروفة بجمال معانيها و وصفها التصويري البديع و موسيقاها الداخلية، أخذ المقرئ نفسا عميقا ثم رتل الصورة من بدايتها في نـَفـَسْ واحد إستمر لأكثر من دقيقة كاملة بصوت غاية في الخشوع و العذوبة، طـُول نـَفـَسْ المقرئ كان مدهشا و مميزا و رائعا. عند نهاية الآيات الأولى التي قرأها المقرئ صاح الحضور في إعجاب و إنبهار، هللوا و كبروا. أنا مأخوذا بحلاوة الصوت و جمال المعاني و الجو الروحاني البديع الذي أحاط بنا جميعا تمتمت في سري “الله يفتح عليك”.
أحد المستمعين إبن بلد واقف بجواري صاح بمنتهى الحماس بصوت عالٍ أجش:
ـ الله أكبر، الله أكبر، ربنا يفتح عليك يا شيخنا، هي دي التلاوة و لا بلاش، ربنا يكرمك و يجازيك خير.
ثم إلتفت لي و أومأ برأسه تجاه المقرئ و قال بلهجة واثقة مـُؤَكـِدة.
ـ ده مـِـحـَـشـِـشْ.
الاستنطاع*: عامية مصرية وجدت صعوبة في تفسير معناها أعتقد أنها تعني التَصرُف بمكر و خبث لتحقيق مأرب خاص في النفس.