بقلم: تيماء الجيوش
يبدأ الفيديو كليب الخاص بمنتدى الاقتصاد العالمي. World Economic Forum بعنوانٍ يقول: فرنسا و نيكاراجوا و ايسلندا ستكون من أوائل الدول في العالم التي ستحقق المساواة الجندرية (المساواة بين الرجل و المرأة) . و إنهاء التمييز الجندري ( الجنساني) بين الرجال و النساء بحلول العام ٢٠٥٠. ومن المتوقع ان فرنسا ستنهي الفارق الجندري بحلول ٢٠٤٠. و ايسلندا ستلحق بها في العام ٢٠٤٢. اما نيكاراجوا فقد أنهت ٨٠٪ من التمييز بين الجنسين و إذا ما استمر العمل بهذا المنوال فإن العام ٢٠٣٤ سيكون عاماً للمساواة هناك و بوتيرةٍ أسرع من البلدان الأخرى مع الإشارة الى ان تواجد النساء نسبته عالية جداً في البرلمان و فرص التعليم متاحة بذات السوية لكلا الجنسين. أما فرنسا و ايسلندا فلديهما ميزتين أساسيتين هما القوة السياسية و المساواة في الاجور. هذه الأرقام و المعطيات مستندة الى ارقام التنمية الفعلية الموجودة في هذه البلدان والتقدم يمكن ان يوقف تماماً التمييز الجندري. و هذا ليس فقط بالأمر المفيد الذي يمكن القيام به و لكن من شأنه ان يحسّن الاقتصاد و يضيف المزيد من القوة المالية للمؤسسات و ينتهي هذا الفيديو كليب بتساؤل ما الذي يمكن ان تقوم به بلدك لمحاربة التمييز الجندري أي التمييز بين المرأة و الرجل؟
سؤالٌ هامٌ جداً و للإجابة عليه دعونا نبحث ما قامت به تونس مؤخراً كمثالٍ لنا و نموذجٍ في العالم العربي و لعله أيضاً هو الأكثر حضوراً و الأحدثُ تاريخاً لدراسته من حيث التطور التشريعي و مواكبته للتغييرات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية ، نناقشه و نُقدر احتراماً القفزة التي ارتقت ب حقوق المرأة عالياً من حيث الإرث و مساواة الحصص الارثية لكلٍ من الرجل و المرأة و كيف استطاعت تونسنا الخضراء القيام بذلك؟
أولاً بدأت التغييرات التشريعية بالتأكيد على ان تونس هي دولة مدنية وفقاً للدستور و بالتالي فإن المبادئ الاساسية التي تقوم عليها الدولة هي ثلاث حق المواطنة و إرادة الشعب و سيادة دور القانون و تلا ذلك إقتراحاً من رأس الهرم السياسي ان تكون المساواة في الارث قانوناً وإن هذا الأمر ما هو إلا تفعيلٌ لمبدأٍ تشريعي ورد في دستور تونس للعام ٢٠١٤ و أكد على المساواة بين المواطنين التوانسة و ابتداءً من تلك النقطة انطلق مشروع للإصلاحات الاجتماعية مثمناً أن الدستور هو السلطة العليا في البلاد و لا بد لقانون الأحوال الشخصية ان يتناسق معه و بالتالي يعتمد مسألة المساواة في احكامه و فقراته. لن ندخل في التفصيل الشرعي و القانوني للإرث او ان الشريعة هي مصدر التشريع الأساسي لأن المساحة هنا في هذا المقال هو لدور السلطة السياسية حصراً في حماية حقوق المرأة و العمل و الالتزام بالحداثة القانونية بما يتسق مع الالتزامات الدولية وعلى هذا نقول باختصار ان ما كان يتم العمل به في قانون الأحوال الشخصية التونسية كما هو التشريع لدى كل الدول العربية و الاسلامية ان للذكر مثل حظ الأنثيين اَي ان الرجل يرث ضعفي ما ترثه المرأة. أثار الأمر عاصفةً من الجدل القانوني و الاجتماعي في تونس ترافقت مع تأكيدٍ سياسي و تشريعي من السلطات بأن التطبيق سيكون شأناً يحتاج الى توافقٍ من أهل تونس أنفسهم فإن أجمعوا عليه عُمِل به وان لم يتم إجماعهم فهو قرارهم أيضاً. و على العموم كانت القاعدة القانونية المشروحة عنه بسيطة و هي كالتالي : في الارث ترث الأنثى ذات حصة الرجل و يبقى الامر متروكاً للمورث و إرادته اَي انه يمكنه التوجه للمؤسسات القضائية، أي الكاتب بالعدل هنا ، و يختار العمل بتوريث الذكر ضعفي حصة الأنثى إن أراد ذلك. قانوناً يعني ذلك و يُترجمُ بأنه اصبح للفرد الحرية في الخيار ما بين تطبيق الشريعة الاسلامية ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) او تطبيق المبدأ الدستوري( المساواة في الارث للجنسين).
في تفسيرٍ مضاف لهذه الخطوة تم شرح انه بهذا يتم احترام و صون كرامة المرأة بل و اكثر من ذلك تم ربط هذا التغيير القانوني بتقدم المجتمع التونسي و تطوره مع التأكيد على احترام آراء الجميع و عدم استفزاز أية شريحة على حساب الاخرى آخذين بعين الاعتبار تنوع الاّراء و المعتقدات الثقافية و الاجتماعية و العقائدية.
بنهاية العام ٢٠١٨ تم التصديق على القانون من رئاسة الجمهورية و أُرسِلَ الى البرلمان للتصديق عليه ربما مع بدء العام ٢٠١٩ و اعتماد الموازنة الجديدة.
يُحتسبُ هنا دوراً عظيماً لمنظمات المجتمع المدني التونسية و التنظيمات النسوية و الحقوقية و اعتمادها ان حقوق المرأة هي ركيزةٌ أساسية لا يجوز التفريط بها. يُضافُ الى ذلك سلطةً تشريعيةً منتخبة تؤكدُ الاعتدال و الوسطية و تتعامل بدبلوماسية يُشهد لها في بحرٍ تتلاطم فيه الاعتبارات الثقافية و العقائدية لا هوادة فيها و متطلبات حداثوية لا بد من ان تكون.
نقف عند هذا الحد و نعود الى الدائرة السياسية و دورها الفاعل في حماية حقوق الانسان الى جانب الدستور و سيادة القانون فعموماً الحكومات لديها سلطاتٌ واسعة و هي اكثر التحاماً مع الأفراد و حقوقهم و ممارستها و توفير ضمانات ممارسة هذه الحقوق. فتصدر القرارات
والتعليمات بهذا الخصوص أو ذاك في إطارٍ من الشرعة الحقوقية / المشروعية و تتفادى كل ما يتعارض مع المساس بالحريات الفردية و حقوق الانسان التي تم اقرارها. و في حال حدوثه فإنها اَي السلطة التنفيذية تلتزم بالمسائلة و المحاسبة و التعويض عن الأضرار وفقاً للمبادئ الدستورية وهكذا.
إعمال الدستور و نصوصه يقتضي جلب جميع القوانين المحلية تحت مظلته و جعلها متوافقة معه . هنا الإطار القانوني يتبع النصوص الدستورية و ليس العكس و بمعنى ادق في الحالة التونسية قانون الأحوال الشخصية يجب ان يتناسب مع احكام الدستور من حيث مبدأ المساواة الذي تم إقراره و الذي ينسجم روحاً و نصاً مع التزامات تونس الدولية و توقيعها للمواثيق و العهود المتعلقة بحقوق الانسان. الهام هنا هو انعكاس ذلك على إنهاء العنف ضد المرأة و إلغاء التمييز ضدها و بلورة حقوقها الاساسية ، في هذه الحالة أي موضوع الإرث تم القضاء على جزءٍ هام من العنف القانوني ضد المرأة و أصبحت المساواة أمراً واقعاً تعيشه نساء تونس ليس عبر احكام الارث فقط بل أيضاً عبر حزمةً عريضة من الحقوق كالزواج ، حق الطلاق، النفقة، اقتسام الملكية، منح الجنسية للأطفال لأمٍ تونسية و لأبٍ غير تونسي، تُكفَل هذه الحقوق و تُطبَق و بهذا تُعزز المساواة و تنبذ كل تمييزٍ قائم على أساس اللون او العرق او الجنس او الدين.
و في المجتمعات السياسية الحديثة يقوم نموذج الدولة الدستورية باحترام الحريات الفردية ، حقوق الانسان ، و المساواة في ظلٍ من العدالة يمارس الأفراد حرياتهم و حقوقهم في ظل الدولة و نظامٍ سياسي مُنتخب من غالبيةٍ تنال رضا أفرادها و هذا امر جوهري و ضمانة سياسية لممارسة الحقوق .
و بمعنى أدق الضمانات السياسية لحقوق الانسان تقتضي السيادة الديمقراطية في الممارسات السياسية و اعمال مبدأ المساواة و رقابة الرأي العام على اداء الحكومة كسلطة تنفيذية.
تعديلات القانون أُحيلت الى البرلمان التونسي الذي سيناقشها و الجدل على الصعيد الاجتماعي و السياسي و الثقافي لم ينتهِ بعد بخصوص الارث و المساواة بين الرجل و المرأة . ربما القرار البرلماني سيُتخذ بشأنه قريباً مع قيام رأيٍ عام و جهدٍ قانوني و سياسي لانفاذه .
نعود الى السؤال الذي طُرِحَ في فيديو World Economic Forum ماذا فعلت حكوماتكم بشأن مساواة الجندر؟ تونس استطاعت ان تقوم بالتحديث و الأمر لا يزال قائماً و قيد النقاش و الاقتراع وفقاً للأصول الديمقراطية. ماذا عن بقية الحكومات العربية؟ هل لنا ان نحلُم بغدٍ أفضل ؟ غدٍ من المساواة الجندرية و احترام حقوق الإنسان لعل و عسى.