بقلم: د. حسين عبد البصير
مقدمة: مصر أم الحضارات
كان يتم تكليف الملكة الأم بحكم البلاد نيابة عن ابنها، الملك الطفل. وتعد هذه الواقعة التاريخية من أوائل الحوادث في هذا السياق. وكان دور النساء مهمًا في الحفاظ على عرش البلاد لأبنائهن حتى يبلغوا سن الرشد. وقد تردد العالم الحديث في اتباع نظام وصاية النساء على العروش. وتم اتباعه في مصر القديمة؛ نظرًا لأن الأم هي الشخص الأكثر ولاءً ووفاءً وإخلاصًا لابنها الملك الطفل؛ فضلاً عن كونها تنتمي بالدم للعائلة المالكة، وأيضًا كانت متدربة على تحمل مسؤوليتها التاريخية والدفاع عن ابنها الطفل حتى يشب عن الطوق. وكانت الأمهات، في أغلب الأحوال، اللائي يقمن بهذا الدور المجيد حين يرحل الزوج فجأة. وهذه السنة الحسنة سوف يسير عليها العالم بعد ذلك وتصبح من أدبيات وآليات انتقال الحكم في دنيا الحكم والسياسة.
كانت علاقة المرأة قوية وقائمة على الحب مع زوجها وكانت محل تقدير أبنائها. وصُورت المرأة واقفة إلى جوار زوجها في حجم مقارب لحجمه. وتطوق جسده بذارعها، وتضع يدها اليمنى أسفل صدره، وتلامس بيدها اليسرى ذراعه الأيسر في حنان وحب واضحين. ويحمل هذا التصوير الفني مغزى حضاريًا معاصرًا يعبر عن قمة الحب والتراحم والحنان والتواصل بين الرجل والمرأة في المجتمع المصري القديم. ويمثل الزوج في صورة إنسانية كزوج محب لزوجته وشريكة كفاحه.
الدفاع عن الوطن
شاركت المرأة المصرية في الدفاع عن الوطن مما يوضح عظمة الدور الذي من الممكن أن تقوم به النساء في تحرير الأوطان وشحذ همم الرجال من الأبطال كي يعيدوا لمصر كرامتها وعزها. وكان للملكة المناضلة «تتي-شري» دور كبير في تحرير مصر من احتلال الهكسوس على يد حفيدها الملك أحمس الأول الذي حرَّر مصر من احتلال الهكسوس وطاردهم إلى خارج الحدود المصرية إلى جنوب فلسطين. وفي هذا ما يوضح عظم دور ملكات مصر العظيمات في الدفاع عن أرض مصر الخالدة، وتنشئة الملوك الأبطال الجديرين بحكم مصر. وساهمت أمه الملكة إياح حتب الأولى في تسيير الفرق العسكرية، ولعبت دورًا كبيرًا في الدفاع عن العاصمة طيبة، وحمت مصر واعتنت بها وبالجنود، وقامت بأداء الشعائر، وجمعت الهاربين وأعادت الفارين، وأنزلت السلام والسكينة على مصر العليا، وطردت المتمردين. وعُثر ضمن آثارها على عدد كبير من الآثار العسكرية مثل فأس يدوية وخنجر وأنواط عسكرية على شكل قلادات الذبابات الذهبية مما يؤكد على عظم دورها العسكري الفريد.
كاهنة آمون
حملت الملكة أحمس-نفرتاري اللقب الديني الكاهنة الثانية للإله آمون. ومن خلال هذا اللقب منحها زوجها أحمس الأول وأبناؤها العديد من الأوقاف للأبد، وكذلك منحها اللقب الديني الجديد «الزوجة الإلهية للإله آمون» وجلب لها الكثير من الثروات. وهو من الألقاب الجديدة التي ارتبطت فيها نساء البيت المالك بعبادة الإله. ويعد لقب الزوجة الإلهية للإله آمون لقبًا كهنوتيًا ليس إلا، ولم تكن حاملة هذا اللقب زوجة فعلية للإله. ومن خلال هذه الثروات الطائلة التي خُصصت لتلك الملكة المعشوقة من زوجها الفرعون، صار ممكنًا لهذه الملكة القيام بالعديد من الطقوس وتقديم القرابين، وصار اسمها منقوشًا في عدد كبير من المعابد.
الملكة والملك
نظراً لأن تحتمس الثالث كان طفلاً، وكانت أمه إيزيس غير مؤهلة للوصاية عليه؛ لأنها ليست من الدم الملكي، قامت المرأة الطموح والقوية الملكة حتشبسوت بالوصاية على ابن زوجها لفترة ما، ثم داعبها طموحها وبريق السلطة وروعة العرش وإغراء الحكم، فتصرفت كأنها ملك ذكر، وتم ذكرها في النصوص وتصويرها في المناظر في هيئة الملوك من الرجال. وكانت الملكة حتشبسوت عظيمة العظيمات، وجميلة الجميلات، وأفضل النساء، والمرأة القوية التي هزت الدنيا وغيرت الرياح في اتجاهها، وجعلت الجميع يحنون إجلالاً وتعظيمًا لتلك المرأة التي خبلت الجميع بجمالها، وسحرها، وقوة شخصيتها وثراء الأحداث في فترة حكمها اللافت في تاريخ مصر القديمة قاطبة. ولم يكن هناك مثيل لقدرتها الكبيرة على إدارة حكم البلاد.
الذكية القوية
تعد المرأة الذكية وصاحبة الشخصية القوية الملكة «تي» هي الزوجة العظمى لفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث. لعبت تي دورًا كبيرًا في حياة وحكم زوجها وأنجبت له وريثه وولى عهده الملك أمنحتب الرابع أو الملك أخناتون بعد ذلك. وفي العقيدة الدينية والملكية لفترة حكم زوجها، اعتبرت الملكة تي إلهة السماء الأم. تشير الآثار من عهد أمنحتب الثالث إلى أهمية زوجته تي طوال فترة حكم زوجها؛ فعثرنا على عدد كبير من التماثيل في أحجام ومواد مختلفة تصورها مع زوجها، بينما تظهرها النقوش تساعده في كثير من طقوس العبادة، وتشاركه كذلك في الاحتفالات خصوصًا الاحتفال الخاص بعيد جلوسه على عرش مصر. ووصف أحد النصوص الملكة تي بأنها ترافق الملك أمنحتب الثالث مثل الإلهة ماعت حين ترافق إله الشمس رع. وأقام الملك بحيرة للراحة والاستجمام في بركة هابو في غرب مدينة الأقصر حبًا لزوجته الغالية قوية الشخصية وصاحبة الحضور الطاغي الملكة الذكية تي. وفي رسائل العمارنة، نرى حكام الشرق الأدنى القديم العظام يتوددون للملكة ويطلبون توسطها لدى أمنحتب الثالث وولدها أخناتون؛ نظرًا لأهمية دورها وعظم قدرها في البلاط عند زوجها وابنها.
الملكة الجميلة
فاقت قوة المرأة الجميلة الملكة نفرتيتي قوة الرجال، وشاركت في أمور الحكم، وكانت ذات دور كبير في تحريك السياسة وتوجيه دفة الحكم في عهد زوجها فرعون التوحيد الملك الفيلسوف أخناتون. وربما حكمت نفرتيتي بعد وفاة زوجها الملك أخناتون البلاد وجلست على عرش الفراعنة وقبل أن يصل كرسي الحكم بعد ذلك بفترة إلى الفرعون الذهبي الملك توت عنخ آمون.
جميلة الجميلات
كانت جميلة الجميلات نفرتاري ملكة قوية ومؤثرة بقوة في عهد زوجها نجم الأرض الملك رمسيس الثاني ملك الملوك. ولعبت دورًا كبيرًا في الشؤون الدبلوماسية في الدولة المصرية العريقة؛ نظرًا لما كانت تتمتع به من مهارات عديدة مثل فنون الكتابة والقراءة وأصول وفنون علم المراسلات الدبلوماسية، فأفادت مصر بمهاراتها الكبيرة وزوجها، فضلًا عن حبها لزوجها الملك مما جعل من قصة حب رمسيس الثاني ونفرتاري أعظم قصص الحب وأخلد حكايات العشاق التي خلدها الإنسان في الحجر والفن قبل أن يخلدها البشر في فنون الأدب والقول. كان من فرط وعظم حب وإعزاز وتقدير رمسيس الثاني لزوجته المحبوبة نفرتاري هو تصويرها معه في معظم آثاره، وبناء الآثار الكبيرة والجميلة لها مثل معبدها إلى جوار معبده الشهير في «أبو سمبل». وتم السماح لبعض الملكات بتشييد مقابر ملكية بين مقابر الملوك الخالدين من حكام مصر تكريمًا وتقديرًا لهن. وأمر رمسيس الثاني بإنشاء مقبرة رائعة لها في وادي الملكات هي الأجمل بين مقابر الوادي الجميل.
وهيا بنا الآن ندلف معًا إلى عالم مصر القديمة الجدير بكل حب واحترام وتقدير وإعجاب. إن عالم مصر القديمة عالم مثير للغاية يمتزج فيه الحب بالإعجاب والتقدير والاحترام. ومن خلال هذه المجموعة المنتقاة من الأبواب والفصول والموضوعات عن مصر القديمة، نستطيع أن نسعد بنسيم وعطر مصر القديمة الجميل العبير، وأن نكشف أسرار وسحر وجمال وغموض وتاريخ وحضارة وآثار مصر القديمة العظيمة.
وتذكر أيها القارئ الكريم أن مصر القديمة كانت، وما تزال، دومًا سبّاقة في كل خير وحق وجمال وفي سنّ ما هو مفيد للإنسانية؛ لأن مصر هي التي علّمت العالم أصل كل شيء، وهي التي أرشدت البشرية جمعاء إلى فجر الضمير ونور اليقين وحلاوة الإيمان وفكرة الدين وروعة التوحيد.
مصر هي التي علمت العالم.
التكملة في العدد القادم