بقلم: بشــير القــزّي
في أواخر صيف سنة ١٩٧٢ دُعِي والدي الى حفل عرس في داريا الشوف وهي قرية تتواجد على بعد كيلومترات من بلدة شحيم في أعالي اقليم الخروب. وكان والد العريس “أبو عنتر” قد زارنا وأصرّ على حضور كلٍ من والديّ لمراسيم الحفل.
وبما أن وعكةً صحية كانت قد ألمّت بوالديومنعته من مغادرة الفراش لذا طلب مني أن أذهب الى المدينة القريبةلاستحضار سلّة زهور تليق بالمناسبة وانطلق بعد ذلك الى داريا لتمثيله.
استقللت في الصباح سيارة والدي واتجهت نحو صيدا. كانت من نوع أودي ١٠٠ ل.س.سوداء اللون تزين هيكلها تقليمات كروميةبينما كان داخل المقصورة يحوي مقاعدجلديّة ذات لون احمر ساطع. أما تابلوه القيادة الخشبي مع ساعاته المستديرة فكان يعطي رونقاً خاصاً أشبه بما نراه في السيارات ذات الطابع الرياضي.
وصلت الى بائع الزهور وانتظرت زهاء نصف ساعة حتى تم إعداد الطلبية. كانت سلّة كبيرة مستطيلة مملوءة بزنبق مار يوسف اضطررت ان افتح كلي البابين الخلفيينلإدخالهافغطّت كامل المقعد من النافذة الى النافذةبينما كان أعلى الزنابق يلامس السقف ويحجب عن السائق الرؤية عبر النافذة الخلفية.
انطلقت نحو داريا وكنت أسابق المنعطفات متلذذاً برؤية أعناق الزنابق عبر المرآة وهي تلوح يميناً ويساراً حسب حركة السيارة. وبعد ان قطعت وسط شحيم ببضع كيلومترات وصلت الى مفرقعلى اليسار يؤدّي الى القرية.
وما ان تراءت لي البلدة حتى توقفت لحظات لألقي نظرة عليها.كانت مبنية على هضبة من منازل خرسانية متلاصقة. أسفل تلك المنازل مسكون وكامل بينما أعلاها في قيد الإنشاء.اما الأزقة فكانت ضيقة وملتوية. فكان هذا حال معظم القرى القديمة التي كانت منازلها مبنيّة بهذا الشكل طلباً للأمان. وداريا معروفة بالزيتون وزيت الزيتون. وكان يُروى عن تجارها انهم يبيعون أضعاف ما ينتجون من ذاك الزيت!
ما ان اقتربت من القرية حتى صادفت احد المارّين فسألته عن بيت “أبو عنتر”.فأجابني سائلاً: هل تسمع الموسيقى؟ الحق مصدرها فتصل اليه.
بعد ان وصلت رحّب بي أبو عنتر، وكان في العقد الخامس من العمر طويل القامة، عريض المنكبين، له وجه مستدير مائل للإحمرار ويزين وجهه شاربان معكوفان ألمّ بالإعتناء بهما ولا أشك انه لم يقصر في استعمالمكواة خاصة مع وضع بعض من شمع “التِزماتيل”. اما طربوشه الأحمر وبالطريقة التي كان يلبسه على رأسه، فكان يدل على وجهة سيره.
دخلنا المدخل ومن ثم انعكفنا نحو الدرج. أما الطابق الأرضي فكانمخصصاً لإحتفالات النساءفصعدنا الى السطح حيث كانت احتفالات الرجال. وكانت مجموعة عواميد خرسانية تعلو السطحجاهزة لاستقبال الطابق الثاني فيما بعد. وكان قماش من نوع الجنفيص قد افرد فوقها للوقاية من حرارة الشمس. اما الكراسي الخيزرانية فكانت قد وضعت على المحيط لإجلاس المحتفلين ولم يكن يتواجد اي حاجز او درابزين خلف ظهر الكراسي.
اصرّ ابو عنتر على إجلاسي عن يسار العريسحيث كنت أقف مع المحتفى به لأسلم على كل متوافد جديد، وكنت كلما عدت للجلوس أتفقد الارجل الخلفية للكرسي خوفاً من ان تقترب اكثر من شفة الهاوية! وعلى أنغام المِجوز والدربكة كان بعض الرجال يرقصون ويقفزون في وسط الساحة وكل منهم يشابه بحركاته تلك التي يقوم بها من امسكبيده احد اطراف الدبكة.
كنت في غاية السرور والانفراج الاّ انه، في لحظة لم أكن انتظرها، اخرج خمسة او ستة من المحتفين مسدسات من نوع ٩ملم (نوع ١٤) وأخذوا يفرغون حمولتها نحو السماء غير عابئين بالثقوب التي يحدثها رصاصهم في الغطاء الجنفيصي! بعد انتهاء الجولة تفقدت بُعدي عن الدرج وأخذت ألعَنُ في داخلي تلك العادة القديمة التي نمارسها في أفراحنا وفِي اتراحنا سواسية!
بعد ذلك هدأ الجو وعاد الرقص الى ما كان عليه على أنغام الموسيقى. وما ان مضى من الوقت نحو ثلث ساعة الى أن بدأت جولة ثانية من إطلاق العيارات النارية!
قبعت في الكرسي وقلت يجب ان أعوِّد نفسي على هكذا احتفالات. ما هي الا ساعات وينتهي كل شيء… واذ كنت أتفقد ما كان من حولي رأيت رجلاً يعتلي بيتالدرج لمنزل مجاور على مقربة قفزة من السطح الذي كنّا عليه. وكان يحمل بندقية حربية وكأنها من نوع “سيمينوف” نصف آليَّة مشطها يتسع لخمس رصاصات. فما كان منه الا ان اسند دبشكها الى كتفه وأمسك بيده اليسرى القابض الخشبي وصوّب نحو السماء وضغط على الزناد فانطلقت اول رصاصة بشكل دوَّت لصوتها الأودية المجاورة! إلا ان الظرف الفارغ (الخرطوشة) فبقي عالقاً داخل الملقّم. فما كان من صاحبنا الا ان انزل فوّهة البندقية بحيت أصبحت مواجهة لأجسام الحضور وأخذ يتصارع يميناً وشمالاً مع الملقّم لإخراج الظرف العالق! أخذ الناس يصرخون ومنهم من انبطح على الارض غير الذين تراكضوا نحو الدرج والذي لم يكن بمقدوري الوصول اليه لبعدي عنه! تمكن اخونا من اخراج الظرف وأطلق عياراً نارياً ثانياً علق هو الآخر، ثم أطلق ثالثاً، ثمّ رابعٍاً، وبالنهاية خامساً وكلّها علقت. وكدنا نتنفّس الصعداء الا ان صاحبنا وضع مشطاً جديداً وأطلق عياراً جديداً علِق هو الآخرفأخذ يعالج الملقممجدداً موجهاً الفوّهة نحو المحتفلين الذين جن جنونهم! عندئذٍ انتفضاحد القبضايات وطار صوابه من اصرار اخينا على المتابعة فسحبمسدسه وصرخ: سأقتلك يا اخو ال——-! وإذ كنت أتواجد على يمين “القبضاي” قفز احد الموجودين وأمسك بزند اليد التي كان يحمل في قبضتها مسدسه ليمنعه من إطلاق النار! عندئذٍ ارتعبت اكثر إذ كانت فوّهة المسدس تموج قبالة صدري بينما الهوة من ورائي ولا مجال للهرب. عشر ثوانٍ او أكثر مرت وكأنها دهر انتهت بفرار صاحب البندقية من على درَجِهِ.
ما ان هدأ الوضع حتى قمت وودعت المحتفلين معبّراً عن أطيب التمنيات للعروسين رغم إصرارالجميع على بقائي للغذاء!