أحب التردد على دار الأوبرا عندما يكون بها عروض موسيقية، يعجبني بالذات أغاني التراث و التواشيح، أغاني الخمسينات و الستينات و السبعينات. أذهب بمفردي، أجد هذا أدعى للتركيز و الاستمتاع، قد يكون ذلك غريبا على البعض أن تذهب فتاة في العشرينات بمفردها إلى حفل موسيقي، و تغادره دون مرافق عندما ينتهي بعد الساعة العاشرة مساءا، لكني أفعل ما يروق لي طالما لا يؤذي أحدا و طالما أنا مقتنعة بما أفعل. كي تكون تجربة ذهابي للأوبرا كاملة و ممتعة أتعمد مراقبة الرواد، أرنو إلى ملامحهم و انفعالاتهم، و أستمع لأحاديثهم و مناقاشاتهم.
ذهبت مؤخرا لدار الأوبرا، كان البرنامج لأغاني عاطفية قديمة مما أحبها، تجولت في مدخل الدار أتأمل العمارة القديمة الجميلة، الدار مبنية في أوائل عشرينات القرن الماضي، بناه معماري فرنسي على طراز دار أوبرا ڨـيينا، لا أفهم كثيرا في المعمار لكني منبهرة من الزخارف الأوروبية الكلاسيكية التي تملأ المدخل، سرت أتسكع بين الناس، أتسمع أحاديثهم و ثرثراتهم، لفت نظري كهلان أحدهما بمفرده و الآخر مع زوجته، واضح أنهما صديقان قديمان فقد تعانقا و تبادلا السلامات، سأل الرجل المصاحب لزوجته صديقه عن حاله، صحته، زوجته و أولاده، يرد الصديق على كل سؤال ب “الحمد لله” مع ابتسامة مجاملة. يقترب ميعاد رفع الستار، تقول الزوجة لصديق زوجها “من الأفضل أن ندخل الصالة الآن، ألن تأتي معنا؟”، يرد الصديق و قد اتسعت ابتسامته “مقعدي فوق السطح، حيث أجلس مع البروليتاريا”، ضحكوا و انصرفوا إلى أماكنهم.
و لأن مقعدي أنا أيضا كان في أعلى المسرح، فقد صعدت السلم خلف الرجل، نظر لي فقلت له مداعبة “أنا أيضا من زبائن السطح”، ابتسم و قال “أنت إذا من طبقات الشعب الكادحة”، رددت “كادحة جدا”، عندما وصلنا لمقاعدنا حيينا بعض بإيماءة من الرأس، و جلس كل منا في مكانه، سعيدة أنا، أتوقع عرضا واعدا، أنظر من علي على تفاصيل القاعة، السقف مزين بزخارف بديعة، محفور بها أسماء كبار موسيقيي زمن بناء الأوبرا مثل ڨــردي و بيتهوفن و بيزيه، الأنوار خافتة موزعة توزيعا جيدا، ستارة المسرح الحمراء مازالت مُسدلة، أنظر حولي أرى الرجل الذي تحدثت معه ينتقل من مقعده إلى الصف الأخير حيث المقاعد حوله شاغرة، عندها تنخفض الأضواء أكثر و ترتفع الستار.
لحظة رائعة هذه، لحظة رفع الستار و أنا جالسة في مقعد وثير في مسرح أنيق وسط جمهور راقي، مترقبة ساعتين من المتعة جميلة. يبدأ العرض، تتوالى المقاطع الموسيقية و الأغاني الجميلة، أغان لم أعاصرها و لكني و الكثير من أبناء جيلي معجبون بها أيما إعجاب.
يصدح مطرب شاب بأغنية عاطفية مؤثرة من أغاني الزمن الجميل، الجمهور كله مستمتع و متفاعل مع الأغنية، كل يسرح في ذكرياته الخاصة، أنظر بطرف عيني إلى مكان جلوس الرجل العجوز، رغم خفوت الأضواء أرى ملامح التأثر الشديد على وجهه، الرجل يبكي في صمت، ذُهلت من رد فعله للأغنية، و التي هي ـ نعم ـ مثيرة للشجن حيث تحكي عن فراق الأحبة، لكني لا أراها تستدعي البكاء، أسْتَمِر في مراقبة الرجل الباكي، أراه يضع جبهته فوق كفه كأنه يحاول ان يخفي جزأ من وجهه و من أحزانه. تنتهي الأغنية، يمسح خديه بمنديله و يأخذ نفسا عميقا، كأنه يستعد مضطرا لمواجهة العالم عندما تضاء الأنوار. يسبقني خارجا مع أغلب الرواد إلى مدخل دار الأوبرا،
أستمر في الجلوس على مقعدي أفكر في رد فعل الرجل، ترى ماذا وراءه؟ و لماذا كل هذا الحزن؟ أهي ذكريات حب حـُكـِـمَ عليه بالفشل؟ أكيد حب قديم باعتبار سن الرجل، أم هو فراق شريكة حياة اختطفها الموت؟ أم ماذا؟ لكن العالم كله يمر بمشاكل و مآسي، فلماذا هو بالذات يبكي وفي مكان عام؟ استولت علي فكرة مجنونة، سأحاول أن أعرف المزيد عن هذا الرجل، بصراحة الفضول هو دافعي الأساسي، لكني أقنعت نفسي أنه أيضا تصرف إنساني فقد أساعد الرجل بالتهوين عليه و مواساته و رفع روحه المعنوية.
نزلت لمدخل المسرح حيث يتجمع الكثير من الرواد، بحثت عنه لكني لم أراه، المدخل يتفرع منه ممران يحيطان بالصالة، سرت في أحدهما، وجدته بمفرده يتأمل إحدى الصور العديدة المعلقة و التي تحكي التاريخ الفني للمسرح، لا أدري إذا كانت أفكاره تدور حول موضوع الصورة أم مع أحزانه التي تبكيه، اقتربت منه، وقفت بجواره كما لو كنت أتأمل الصورة مثله، التفت لي فالتفت إليه، ابتسمت ابتسامة وضعت فيها كل الحميمية التي أمكنني حشدها، قلت له “غناء جميل أعجبني كثيرا”، رد باختصار و بطريقة مجاملة “فعلا”، استمريت في محاولتي اللحوحة للتواصل معه، قلت له “أَحضر هنا كثيرا، دار الأوبرا هذه بمبناها و عروضها و روادها و جوها العام يـُصـْلـِح بعض الشيء من واقعنا القبيح، هل تحضر هنا كثيرا؟ هذه أول مـَرّة أراك.”، رد و قد بدأ الضيق يظهر على وجهه “مرتين أو ثلاثة في السنة”، قلت “أعجبني العرض كثيرا، و إن كانت بعض الأغاني مثيرة للشجن، عموما أرى الشعور بالشجن و حتى الحزن ظاهرة إيجابية، لا أتخيل إنسان سَوِيْ لا يشعر من وقت لآخر بالحزن، إنه الضعف الإنساني الذي يجب على المجتمع أن يحترم، و ألا ينظر إليه نظرة سلبية”، شعرت أني أهذي، لا ادري من أين أتيت بهذه الأراء التي أعلنها بمنتهى الثقة. بان الضيق على وجه الرجل، قال لي “بعد إذنك” و انصرف.
وقفت ذاهلة من اندفاعي في الكلام و من رد فعل الرجل الذي كان مفروض أن أساعده، هـَوَنَ علي أن دافعي كان نبيلا وهو مساعدة الرجل و التهوين عليه، نعم هناك عنصر من الفضول لكن هناك أيضا رغبة في المساعدة، أو هكذا حاولت ان أقنع نفسي.
عدت إلى مقعدي، خفتت الأضواء، بدأ الجزأ الثاني من العرض، و الذي اتسم بأغاني مرحة سريعة الإيقاع، تفاعل معها الحضور و أضفت جوا جميلا على المكان، لكن مقعد الرجل العجوز كان شاغرا.