بقلم: نعمة الله رياض
قال له مدير الشئون الإدارية : للأسف قررت الشركة الإستغناء عن عدد من الموظفين توفيرا في الميزانية نظرا” لركود الأسواق …أنت وافراد القسم الذي تعمل فيه من بينهم .. بالرغم من كفائتكم العالية . أرجو منك إخلاء الطرف والذهاب للخزينة لصرف مستحقاتك المالية ومكافأة نهاية الخدمة .
خرج من باب الشركة مقطب الجبين , يجرجر قدميه في طريقه للمنزل , لا يعرف ماذا يقول لزوجتة , لقد أصبح عاطلا للمرة الثالثة في حياته المهنية وهو لم يتجاوز بعد السابعة والأربعين من عمره …
غير رأية وذهب لحديقة عامة بدلا من العودة للمنزل , جلس علي مقعد يحاول جمع شتات نفسه , زوجته لا تعمل وهي متفرغة لرعاية البيت والأولاد , سيعود للمنزل في وقت رجوعه من العمل , ويكرر ذلك أيام عملة المفترضة ويبقي في المنزل يوم العطلة الأسبوعيه ! وسيستمر في ذلك حتي يجد وظيفة جديده !!!
وهو جالس في الحديقة كل يوم ,كان يبحث عن وظيفة في صحف الإعلانات المجانية تقدم للإمتحان في عدة وظائف في مجال تخصصه , لم يقبل في أي منها إما بسبب كبر سنه أو عدم إستيفاء شروط الوظيفة …
مطلوب سائق لأسرة محافظة بمرتب مغر , يشترط السن من 40-50 عاما , حسن الأخلاق والمظهر ويجيد الإنجليزية … الوظيفة شريفة وشروطها تنطبق عليه , في الماضي كان يفضل الموت جوعا ولا يعمل سائقا لدي عائلة مهما كانت ثرية , بعدما كان يشغل وظائف في شركات كبري , وبعد كل الشهادات والخبرات التي حصل عليها .. الآن وبعد تضاؤل فرص العمل في تخصصة وكبر سنه , يمكن للمبادئ والقيم التنحي قليلا أمام تلوي أمعاء البطون الجائعة ..
زاد حبه للماضي أو بالاحري كان يهرب إليه .. أدمن مشاهدة الأفلام والأغاني المصرية القديمة , إنها ومضات مسجلة لإشخاص رحلوا ويتم إستحضارهم من الماضي بصورهم المتحركة وصوتهم بآلاف من تلك الومضات المتجاورة علي شاشة التلفزيون ..أحس بحنين جارف إلي الماضي عندما ظهرت وردة علي الشاشة تغني بصوتها الدافئ : ذكريات حب الطفولة البريئة الرقبقة الجميلة عايشة فيها من يوميها ..من يوميها .. من يوميها , هو أيضا كانت له ذكريات حب في طفولته .. كان يلعب مع حبيبتة وهم أطفال ,تآلفت روحهما وتعاهدا عندما يكبرا, أن يكون زوجها وتكون زوجته .. نظر إلي زوجته , لمعت ومضات في رأسه فنادي زوجتة بإسم حبيبته !! غضبت وصرخت في وجهه
– إنت إتجننت وإلا بدأت تخرف !!
ذهب لمحل بيع اللحوم ..
_ حسابك كام يا معلم ؟
– كيلو ونص مشفي ب 120 جنية
ومضت عيناه وهو ينظر إلي صاحب المحل ورأي نفسه في العشرين من عمره يشتري اللحم من نفس هذا الرجل الذي يقاربه في السن …
فاكر يا معلم لما كنت بأشتري منك كيلو اللحمة بتمانين قرش ؟
كان زمان يا محترم, القرش إختفي وعملوا قرش مدهب سموه جنيه وكيلو اللحمة اللي كان بتمانين قرش بقي بتمانين جنية ..حسبة بسيطه القرش .. بقي جنيه !!
حد عارف ؟ يمكن بكرة القرش يبقي بعشرة جنية !!
في المساء ,إستلقي علي الفراش بجانب زوجته … ضاعت منه الرغبة في الطعام …وفي زوجته !! ولم يعد يرغب في شيئ سوي التعامل مع همه ووضعه المالي المتدهور ..
سألته زوجته – أين ذهبت في الصباح ؟
في الشركة طبعا إلي أين سأذهب ؟ ! ..
انت تكذب علي .. لقد نسيت هاتفك المحمول في المنزل وإتصلت بعملك لأخبرك بذلك وردوا أنك لم تعد تعمل في الشركه منذ أكثر من شهر ونصف..
لم أستطع إخبارك , فهذه ثالث مرة يتم أقالتي من عملي .
وماذا سنفعل ؟
قدمت اوراقي لعدة أماكن لكن سني متقدم والفرص تتضائل
شهر ونصف ولم تعثر علي عمل ومن أين نأكل ؟
اسحب من مدخراتي في البنك وهي تتقلص بسرعة ..
أنا أعلم ماذا سيحدث.. نقودنا لن يتبقي منها شيئ وستمر علينا الليالي بدون عشاء مثل المرتين السابقتين , ليتني لم أصرف المائة جنيه التي اعطيتها لي في الصباح , ذهبت للبقال وإشتريت بعض المستلزمات القليلة جدا ولم يتبقي منها سوي ثلاثة جنيهات ..
قصدك ثلاثة قروش … القرش أخذ ترقية وأصبح جنية !!!
وحنعمل ايه يا ناس حنعيش إزاي إحنا والأولاد ونسدد اقساطنا منين.. يا مصيبتي يا بلوتي يا بختي المايل , زاد عويلها وصراخها حتي طال آذان الجيران .. إسودت الدنيا في وجهه, إرتعشت شفتاة وإلتمعت عيناه .. وفجأه ضحك ضحكة هيستيرية جلجلت في فضاء الغرفة وصرخ في وجه زوجتة وسط ذهولها وجزعها – القرش بقي جنيه يا حلولا !!! أنا حاعلنها علي الملأ !! نزل مسرعا من المنزل إلي الشارع بملابس النوم وبشعر رأسه المشعث وهو يصيح بأعلي صوته , رافعا ذراعيه محييا الجماهير , والمارة ينظرون إليه في إستغراب ورثاء وهو يزداد هرجا رافعا رأسه في الفضاء بعيون زائغه : القرش بقي جنيه يا حلولا !!! .. القرش بقي جنيه يا حلولا !!!. سار علي غير هدي , من شارع لشارع فوق الأرصفة وبين السيارات المارقة أوالواقفة في إشارات المرور .. مشي وهو يكرر : القرش بقي جنيه يا حلولا !!!
شاهده بعض الصبية من أولاد الشارع .. إنطلقوا خلفة صائحين : العبيط أهو .. العبيط أهو .. إلتقط أحدهم حجر صغير وقذفه في ظهره .. تألم كثيرا .. إستدار نحوهم وبدأ يطاردهم وهو يصيح : والله يا أولاد الابالسة, لأعلمكم الأدب … أنا حعلمكم الأدب … صمم علي الإمساك بأكبرهم , استمر يعدو خلفه وهو يصر علي أسنانه ويصيح : أنا حخليك عبرة يا وقح ..
حاول الإمساك بالصبي , ولكن هيهات..هل يستطع منافسة جيل يافع في العدو ؟!!.. كانت المسافة بينهما تتسع شيئا فشيئا إلي أن إختفي الصبي .. زادت ضربات قلبه وتلاحقت بقوة وتصبب العرق الغزير منه .. جلس علي حافة الرصيف وهو يلتقط أنفاسة أحس بغمامة علي عينيه ورأي نفسة وهو تلميذ يجري في فناء المدرسة , وزملائه يطاردونه وهم يضحكون ,رمي أحدهم بلحة كبيرة خضراء ساقطة من النخل المزروع في فناء المدرسة , أصابت رأسة.. أحس بالدنيا تدور في دوامة هائلة أمام عينية ..الشوارع والأرصفة , المباني والسيارات .. ترقرقت دمعة ساخنة وإنحدرت علي خدة , أغمض عينية…إنحنت رأسه علي صدره … خفتت ومضات الماضي .. وإنطفأت .