سوف نعرض هنا شيئاً لا بد من التعرض إليه والبحث فيه ، وهو أن البعض قد يربط بين هذه الحكايات وبين ما يُروى في كتاب « كليلة ودمنة « الذي كتبه أبن المقفع ، وقد يزيد غيرهم فيعتقدون أن لافونتين قد أستوحى حكاياته منه ، أما الربط أو العلاقة بينهما فهي أولاً علاقة يربط بينهما فيها أصل أدبي قديم ، وهي بعد ذلك مختلفة وغير متشابهة ولو تشابهت فهي في الشكل وليست في المضمون ، ولو تحرينا الدقة لقلنا أن لا علاقة فعلية بينهما . أما أن يكون لافونتين قد أستوحى حكاياته من كتاب كليلة ودمنة فهذا ما يجب أن ننكره ، ولنا في ذلك حديث يتلو هذا الحديث نوضح فيه هذا الغموض الذي أوشكنا أن نغوص فيه والذي قد يراه البعض غموضاً ويراه غيرهم توضيحاً . وليس من شك في أننا قد لا نرضى هؤلاء الذين يتحيزون لذلك ، بل قد نتعرض منهم للسخط ، ولكن من اليقين سنرضي هؤلاء الذين يمتلكون من الثقافة والتحرر ما يؤهلهم للأقتناع بالدقة فيما نرويه ، ونوضح فيه هذا الشبه بل هذا الخلط ، ونوضح معهما الأختلاف بين الترجمة وبين الأطلاع ، وبين الإيحاء والأعتقاد من جهة ، وبين العمل الذي ينتج عن قراءات ودراسات الأديب من جهة ثانية والتي تنبع من معرفته وثقافته . لقد كتب عبد الله بن المقفع وهو كاتب فارسي (724م) عاصر الفترتين الأموية والعباسية كتاب كليلة ودمنة في القرن الثامن الميلادي (750م) وفي العصر العباسي مترجماً عن اللغة الفارسية .
أما الكتاب فهو من أصل هندي يسمى (بنشاتنترا Panchatantra) كُتب في القرن الرابع الميلادي ، ألفه الحكيم (بيدبا) أو كما يطلق عليه بالفرنسية (بيلباي Pilpay أو بيدبيه Pidpai كتبه لرغبة ملك الهند (دبشليم) في أن يمتلك كتاباً تعرفه الأجيال المتعاقبة ، وهذا الكتاب يحوى قصصاً تتضمن الحكمة والأخلاق الجيدة . وقد كان دبشليم ملكاً ظالماً فرغب (بيدبا) بما به أن يلقى عليه ما يمنعه عن هذا الظلم فوضع فيه من الوعظ والأرشاد في العلاقة بين الحاكم والمحكوم .
وفي القرن السادس الميلادي تُرجم هذا الكتاب من اللغة الهندية إلى اللغة الفهلوية الفارسية ، ترجمه الطبيب (برزويه) بعد أن طلب إليه كسرى الأول (انوشيروان) ذلك ، ثم ترجم في نفس القرن من الفارسية إلى السريانية. وفي القرن الثامن الميلادي (750م) ترجم ابن المقفع الكتاب من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية وأسماه (كليلة ودمنة) .
ويبدو أن النسخ الهندية والفارسية قد ضاعت فلم يكتب عنها ولكن النسخة العربية هي المعروفة بهذا الكتاب . أي أن كتاب كليلة ودمنة هو هندي الأصل تُرجم منه إلى الفارسية ثم منها ترجمه أبن المقفع إلى العربية وكذلك ترجم إلى الفرنسية واللاتينية كما ستوضح بعد ذلك .
وكتاب كليلة ودمنة يحوى عدداً من الحكايات المنفصلة ولكنها متتالية تبدأ بحوار بين بيدبا وبين الملك دبشليم يعرض فيه بيديا رأياً أو فكرة فيسأله الملك عنه أو عنها ، يرغب في ذلك توضيحاً فيقول له عنوان الحكاية التي توضح ما يرغب فيه فيستفسره الملك فيحكيها له بيدبا ويضمنها الوعظ والارشاد مثل ما يبدو في خيانة الأمانة كالشريك المحتال أو اللص المخدوع فإذا أستزاد الملك في أستيضاحه يحكيها له بالعلاقة بين الحيوانات ليبدو ذلك المضمون الذي بالحكاية .
أما حكايات لافونتين فهو يحكيها بشخصيات من الحيوانات ، فيها يوضح صفاتها التي تقودها إلى سلوكها ، وفيها يضع رأيه ، وفيها يسرد أفعال وسلوك هذه الحيوانات ، وهو في كل ذلك يرمز بها إلى الإنسان لتبرز منها الحكمة أو المغزى الذي يتضمنها ، ويرويها بشخصيات إنسانية في غيرها أو شخصيات من النبات أو الجماد فيبدو المغزى أو الحكمة ضمنياً من قراءتها أو يضعه واضحاً في بداية الحكاية أو في نهايتها فيما يسمى Morale
ولا يوجد أي تشابه بين مضمون حكايات لافونتين في مؤلفه وبين حكايات أبن المقفع في كليلة ودمنة ، كما أن أبن المقفع يحكيها نثراً يبدؤها بحوار ينشأ بين من يحكي وبين من يسمع ، أما لافونتين فيحكيها شعراً يلتزم فيه قواعد الشعر الفرنسي التي يعرفها الكثيرون وهو شكل مختلف عن الشكل الذي يبدو في كليلة ودمنة . ولنرجع إلى ما قلناه منذ قليل وعن هذا الغموض الذي قد يراه البعض غموضاً ويراه غيرهم إيضاحاً ، وإلى ما يعتقده البعض تشابهاً بين حكايات لافونتين وحكايات كليلة ودمنة فتقول بغير شك أن لا تشابه بينهما . وإن أوشكنا أن نقول في الشكل وليس في المضمون ثم تحرينا الدقة لنقول لا علاقة بينهما لا في الشكل ولا في المضمون . ولكننا نرجع الآن ونسأل ما الذي يربط في أعتقاد البعض بين حكايات هذين الكاتبين فنقول بلا مواربة أن الأساس هو بين من ترجم نصاً من لغة إلى لغة وبين من أطلع عليه فأصدر شيئاً مختلفاً عنه من قريحته ومن إبداعه رواه شعراً . وأن هذا الأساس هو الأصل الأدبي الهندي للحكيم بيدبا في كتابه (بنشاتنترا) والذي ترجم إلى اللغة الفارسية وترجمه أبن المقفع منها إلى اللغة العربية ، أما لافونتين فقد أطلع على ترجمة النص الهندي إلى اللغة اللاتينية التي كان يتقنها أو الفرنسية أو من الترجمة الفارسية إلى الفرنسية ، ثم بعد فترة قصيرة أو طويلة يصدر عنه من إبداعه هذا المؤلف الذى يتضمن هذه الحكايات .
البقية في العدد القادم