بقلم : ﭽاكلين جرجس
فى تلك الليلة الحزينة التى بكت فيها القاهرة منذ واحد و خمسون عامًا فى التاسع من مارس 1971 ، أمطار غزيرة انهمرت على البلاد لم يعرف سببها علماء الارصاد الجوية ؛رئيس هيئة الارصاد الجوية وصفها بأنها “ مفاجأة جوية “ ، بالفعل كانت مفاجأة حزينة حقيقية ؛ حين بكت القاهرة و أظلمت سمائها حزناً على رحيل البابا كيرلس السادس ، و جاء نعى البابا كيرلس أكبر و أطول نعى فى تاريخ مصر ، و استمر ستة أشهر كاملة !.
ذلك لاحتفاظه بمكانة خاصة فى قلوب المصريين حتى لُقبوه بالعديد من الألقاب منها :” صديق عبدالناصر” ،”رجل المعجزات”، و بالرغم من رحيله عن عالمنا إلا أن مواقفه الوطنيه و أقواله تعيش فى وجداننا حتى الأن ، و قد اقترن اسمه و مواقفه بعدد من الأزمات السياسية التى مرت بها البلاد،وقتها كان صديقاً حميمًا للرئيس الراحل جمال عبدالناصر،و هى العلاقة التى عبّر عنها محمد حسنين هيكل فى كتابه “خريف الغضب” بقوله “كانت العلاقات بين جمال عبد الناصر وكيرلس السادس علاقات ممتازة، وكان بينهما إعجاب متبادل، وكان البطريرك يستطيع مقابلة عبد الناصر فى أى وقت يشاء “، و هى العلاقة التى يعيدها للأذهان بقوة الرئيس عبد الفتاح السيسى بقداسة البابا تواضروس، وقد جمعهما حب و مصلحة الوطن.
كان البابا كيرلس رجل الصلاة لم نجد فى تاريخ الكنيسة كله إنسان استطاع أن يقيم مثل هذا الكم من القداسات التى قاربت عن 12 ألف قداس (باستثناء الخمس السنين الأخيرة التي مرض فيها) ،وهذا ما لم يحدث فى تاريخ باباوات الإسكندرية أو العالم ، تشعر ببركة خاصة و كأن روحه تحوم حول اولاده المصريين ترشدهم و تقويهم ومن محبته للصلاة اختار حياة الوحدة فعاش متوحدًا مدة طويلة، وتتلمذ على أكبر أستاذ كتب في الوحدة في تاريخ الرهبنة كلها وهو القديس مار إسحاق.. لقد قرأت مئات من الكتب النسكية، فلم أجد أعظم من كتابات مار إسحاق عن حياة الوحدة والسكون.
ولقد كان البابا كيرلس يحب مار إسحاق، ويقرأ كلماته ويحفظ الكثير منها، ونَسَخَ بنفسه كتاب “مار إسحاق” على ضوء شمعة في مغارته وعلى ضوء لمبة غاز. عاش في وحدة في مغارة قرب دير البراموس. يسهر الليل في قراءة أقوال الآباء ويصلي في الفجر ويُقيم القداسات، وعاش في طاحونة قرب مصر القديمة، ثم في الكنيسة التي بناها بنفسه في مصر القديمة، ولم يخرج من بابها إلا للضرورة القصوى، وعندما اعتلى كرسي مارمرقس لم تتركه حياة الوحدة بل كثيرًا ما كان يذهب إلى دير مارمينا بصحراء مريوط.. وكان يريد أن يمتلئ من ثمار الوحدة لنفسه.
الوحدة كما تعلمها البابا كيرلس من مار إسحاق، هي الانسلاخ من الكل للارتباط بالواحد.. لذلك كان كثير الصلوات حتى في أثناء وجوده وكلامه مع الناس؛ لذلك كان صَموتًا لا يتكلم كثيرًا، لكي يعطي نفسه فرصة التأمل والصلاة، وكان أيضًا يعهد إلى الله بمشكلاته.. ويرى أن القداسات والصلوات هي التي تحل له المشكلات وليست المجهودات البشرية. وكلما كانت تحيط به الضيقات يلجأ إلى الوحدة والصلوات والقداسات شاعرًا أن معونة الله أكبر من كل معونة بشرية.. لقد أعطانا مثلًا كبيرًا في حياة التأمل والخدمة مع أن جمعهما ليس بالأمر الهين السهل، فقد كان يخدم الكنيسة بأقصى ما يستطيع. ومن جهة أخرى يختلي بنفسه ويأخذ من التأمل والوحدة على قدر ما تعطيه إمكانياته. كان البطريرك يؤمن بأهمية التعليم والخدمة والصلاة في النهوض بالكنيسة، وامتلك رؤية ثاقبة في فرز واختيار معاونيه، فقرر أن يحتضن الشباب المثقف من الرهبان، فكانت أهم قراراته هي رسامة الأنبا شنودة كأول أسقف للتعليم (البابا شنودة الثالث)، ورسامة الأنبا صموئيل كأول أسقف للخدمات العامة، والأنبا غريغوريوس أسقفا للبحث العلمي، ولم يكن معروفا في ذلك الوقت فكرة رسامة أسقف على خدمة دون إيبارشية جغرافية، كما كان لرسامته الأنبا دوماديوس أسقفا للجيزة، والأنبا أثناسيوس أسقفا لبني سويف دورا كبيرا في النهوض بالعمل الكنسي.
فاستطاع البابا أن يجدد دماء قيادات الكنيسة بالشباب المتعلم الذي كان ينشد الإصلاح من جهة، وأن يهتم بالخدمة الاجتماعية والتعليم والرعاية من جهة أخرى على مستوى القاعدة، فهو وإن لم يفعل ذلك بنفسه فقد اختار الأنسب للقيام بهذا الدور، ولهذا وصفه البابا شنودة بأنه حلقة الوصل بين الجيل القديم والجيل الجديد.
كما كان مشهودًا له بوطنيته خاصة بعد احتلال إسرائيل لسيناء بعد حرب الأيام الستة وكان ذلك جليًا في رسائله الباباوية ، واللقاءات التي حضرها لتدعيم موقف عبد الناصر، وعندما قامت إسرائيل بضم القدس لأراضيها وتهويدها وغيرت وضعها قبل سنة 1967م، قام البابا بالاتصال بالكنائس لترفض ضم القدس للأراضي اليهودية ، و أدلى قداسته بحوارت للتلفزيون الفرنسي من أجل الحقوق العربية في مدينة القدس وتنفيذ قرارات مجلس الأمن، هذا إلى جانب إتخاذه قرار منع الأقباط الذهاب إلى القدس للتقديس ،أما الرئيس عبد الناصر كان موقفه بطولى تجاه بناء الكاتدرائية فقد أعطى تصريحًا لبناءها ،وكلف إحدى شركات القطاع العام بأن تقوم بعمليات البناء،و انتهى الهيكل الخراساني لها في سنة واحدة ، وحضر الرئيس حفل وضع الأساس فيها ،و حفل افتتاحها ، كما تبرع بمبلغ 100 ألف جنيه مكّنت الكنيسة من دفع رواتب العاملين بالبطريركية بعد تأخرها لعدة شهور .
فما أشبه الليلة بالبارحة فالتاريخ يعيد نفسه عندما قام الرئيس عبد الفتاح السيسى بافتتاح الكاتدرائية الجديدة فى العاصمة الإدارية فى عهد قداسة البابا تواضروس الثانى وكان الرئيس السيسى أول المتبرعين لها ؛و الأن و هو يكلف وزير الإسكان قائلًا: “مفيش مشروع سكني يتعمل ومبني فيه جامع إلا ونعمل فيه كنيسة”. ؛ هذه هى مصر الجديدة .. مصر المواطنة .. مصر التى تحتوى الجميع ، داعيين الله أن تنمو و تتزايد أواصر المحبة فمصر تميزت على مر العصور بالتآخى والتعايش لا مكان للتعصب الطائفى بين أبناء الوطن الواحد ، بوحدتنا نستطيع أن نبنى المجتمع الصحيح الذى نأمله .