بقلم: بشــير القــزّي
كنت في الثانية عشرة من عمري عندما تملّكتني رغبة بتربية العصافير في المنزل إذ كنت أصدف الكثير من الشرفات وهي تتزيّن بأقفاص تصدر منها أنغام تُمجّد الخالق.
بدأت مشواري عندما قام بإهدائي أحد الأقارب حسّوناً مع قفصه. أما القفص فكان هيكله مصنوعاً من عوارض خشبية لها خروم باتجاه واحد وبأبعاد منتظمة بينها تسمح بمرور أسلاك معدنية متوازية الأبعاد وهي تشكل الحاجز الذي يمنع الطائر من الهرب من القفص عندما يكون بابه مقفلاً.
أما الحسّون فكان شكله جميلاً جداً من منقاره العاجي الذي يتوسّط وجهه الأحمر ووجنتيه البيضاوين إلى أعلى رأسه الأسود إلى جناحيه السوداويّن اللذين يتزيّنان بخطٍّ أصفر… كان متى انتصب على عارضة الوقوف يسقسق للحظات ثم يُغرّد على شكل زقزقة وهو يُحرّك رأسه من اليمين إلى الشمال وكأنّه يؤدّي وصلة غنائية في مسرح أمام جمهور ينصت اليه!
لم تدم حيازتي للحسّون طويلاً لأنّه تمكّن من الفرار يوماً من بين الأسلاك المعدنيّة التي كنت مجبراً على لمسها كلما قمت بتنظيف القفص!
وفي أحد أيام نهاية الربيع من تلك السنة وإذ كنت أمشي ضمن أحد بساتين المزرعة سمعت صوت صفير غريب يأتي من على غصن إحدى أشجار الصنوبر البرّي. تسلّقت الجذع وما ان وصلت إلى مستوى الغصن وتتطاولت بجسمي حتى اقتربت من مصدر الصوت وإذ بي أجد عشّ عصافير مبنيّ على ذاك الفرع! ما ان استرقت النظر داخله حتى وجدت فرخي عصافير يفتح كل منهما فمه على كامل مصراعيه مستنجداً طالباً الطعام. عرفت لتوّه أنه عشّ بلالبل!
كنت قد سمعت عن عصفور البلبل ان تدجينه ممكن إذا ما ربّاه صاحبه وقام بإطعامه منذ صغره. أما إذا ما كبر على هذا النحو فهو يرافق مربّيه طوال النهار في المنزل وخارجه ولا يحتاج إلى وضعه في قفص مقفل. لذا أخذت أحد الفرخين ونزلت من الشجرة وتوجهت نحو البيت وأنا أنظر ورائي خوفاً من ان ينقضّ عليّ أحد الوالدين وكنت أسمع صفيراً متعالياً يأتي من الأشجار المحيطة!
ما ان وصلت إلى المنزل حتى استحضرت قفصاً مستطيلاً كان لديّ وأسرعت إلى شجرة التين المجاورة وقطفت إحدى الثمرات وأحضرت معي عوداً اقتطعته من قصبة وأخذت أطعم فيه الفرخ من فمه وهو يصرخ مستغيثاً طلباً للقوت! ما ان مضت دقيقة أو اثنتان حتى شبع فسكت وظننت ان مهمتي انتهت لبعض الوقت إلا انه عاود الكرّة مجدداً بالاستغاثة في زمنٍ لا يتجاوز العشر دقائق! عدت لإطعامه مجدداً لأرتاح دقائق معدودة قبل ان يعاود الصراخ!
بقيت ملصقاً بقربه طوال الأيام التي تلت وكنت أظن أنه سيتمكن من الأكل لوحده بعد أيام إلا أنه كان مصراً على ان أطعمه بنفسي في فترات متقاربة لا يتجاوز طولها الربع ساعة! وكان يبدأ بالاستغاثة مذ بزوغ الشمس ولا ينتهي من طلب الأكل الا بعد غيابها! والغريب بالأمر انه كان يُخرج من معدته بنفس الغزارة التي يأكل فيها لذا كان علي تنظيف القفص عدة مرات كل يوم!
كان ريش جسمه قاتم اللون مائلاً إلى السواد وقد حاولت أخذه في نزهات خارج المنزل الا انه لم يكن قادراً على الطيران لوحده وكان يلازم الوقوف على كتفي طوال النزهة!
بعد مضي شهر كامل على حيازتي للبلبل ضقت ذرعاً بالاهتمام المتواصل به مما منعني من مغادرة المنزل ولو لساعات معدودة لأنه لم يكن قادراً على تناول الأكل لوحده! في حدود الساعة الخامسة من عصر أحد الأيام قررت الذهاب لزيارة أقارب لي لذا أقفلت الدرف الخشبية للنوافذ ليظن ان الشمس قد غابت وهكذا يأوي إلى النوم بانتظار صباح الغد! وهكذا كان… الاّ أني فوجئت لدى عودتي انه لم يقوَ على الاحتمال وقد فارق الحياة!
أما قصّتي مع “الكناري” فسأتركها للمرة القادمة…